نواف سلام: النخبوية إلى “المتاريس”!
في أول مناظرة علنية له في المدرسة المركزية في جونية بعد تكليفه للمرة الأولى عام 1992 سأل كاتب هذه الزاوية الرئيس رفيق الحريري كيف تكون رفيق الحريري وتقبل الغرق في السياسة اللبنانية رئيساً للحكومة، فأجاب باقتضاب منزعجاً: لبنان أكبر منا. على هدى هذا المزاج، قلب كثيرون الشفاه اذ يشاهدون رئيس أعلى منصب قضائي دولي يبارح لاهاي ليحط رحاله في السرايا. صحيح أن نواف سلام ألهب العرس الثاني للتحرر اللبناني من عقود ما كان يشكل خنقاً للبنان، لكن الصحيح أيضاً أن نخبويته ستنخرط كرأس حربة في متاريس تصفية الحقبة الأسوأ في تاريخ لبنان. بعد الطائف الذي يعدّ نواف سلام إحدى نخب تجسيده أسوة بأكثر أصدقائه النخبويين غسان سلامة، شغل السرايا القديمة والجديدة سليم الحص وعمر كرامي ورشيد الصلح ورفيق الحريري ونجيب ميقاتي وفؤاد السنيورة وسعد الحريري وتمام سلام وحسان دياب. بصرف النظر عن الحيثيات الشخصية والسياسية لكل منهم سيصنع نواف سلام فرادته بكونه رئيس الوزراء صاحب الفائض العلمي والثقافي وحامل المراس النادر بين عشرة أعوام في الأمم المتحدة وعامين في رئاسة محكمة العدل الدولية. مخزون “أكبر من أن يسيل” بسهولة في تضاريس بلد ناهض من كوارث ويصفق بذهول وفرح كبير لإعصار تغييري لا يصدق أنه ضربه! ولكن نواف سلام بشغفه الديبلوماسي قبل القضائي، اقتبس للبنان تلك المعادلة الشهيرة “النأي بالنفس” التي تلقفها الرئيس ميشال سليمان وأسند إليها “إعلان بعبدا” الذي أسقطه الممانعون، كما أن نواف سلام أشعل غضب إسرائيل قبل أشهر حين صُدمت بأول إدانة لنازيتها الوحشية في غزة على يد محكمة العدل الدولية برئاسة أول لبناني وثاني عربي. بين “النأي” بلبنان عن كوارث مغامرات وارتباطات الممانعين بالنفوذ الإيراني الانتحاري وممارسة أقصى ما يمكن بلوغه في مقاومة ديبلوماسية وقانونية وقضائية لإسرائيل، ترانا نتساءل هل سيتمكن نواف سلام من تجسيد المعادلتين في ابتكار لبناني خالص مع رئيس الجمهورية المنتخب بحاملة دولية غير مسبوقة أيضاً، ونعني تحديداً مواجهة التحدي الأكبر المتمثل بتنفيذ لا يحتمل أي تردد بعد الآن للقرار الدولي 1701 والقرارت ذات الصلة؟
الحال أن الغضب الذي ساور فريق “الثنائي الشيعي” حيال صدمة تكليف نواف سلام بدا فاقد المشروعية والحكمة تماماً إلا إن كان هذه الفريق يصطنع لنفسه أسطورة أنه عرضة لانقلاب كوني عليه، مثلما كان يحلو لحليفه السابق الرئيس الأسبق ميشال عون أن يصوّر دوماً مبررات إخفاقاته المتعاقبة. لا يتعين على الرئيس المكلف، ولا قبله ومعه الرئيس جوزف عون، أن يغفلا أيضاً عن حقيقة أن الفريق الساخط الآن تحكم بلبنان وقاده إلى أسوأ كوارثه وهو الآن يأكل القليل مما أطعمه لخصومه طويلاً. تداعيات الهزيمة السياسية لفريق إن كانت درباً لا مفر منه لنفض الركام عن لبنان، تستأهل مواجهة ثقافة التهويل والترهيب المتهالكة التي لوّح بها أحدهم من قصر بعبدا من دون التفات إلى مرآة مآثر قادت أصحابها إلى هذا المهلك… ولبنان ينتظر الانتصار الخالص للدولة.