الثنائي لن يستسلم… أمام الانقلاب المخمليّ
الأرجح، هو الانقلاب المخملي الوحيد الذي شهده تاريخ لبنان الحديث، وتحديداً منذ قيام جمهورية الطائف. حتى اغتيال رفيق الحريري، وما تبعه من أحداث وتطوّرات حملت قوى الثامن من آذار من الموقع الهجومي، القيادي، إلى الدفاعي… لم يكن على مستوى التغيير العميق الحاصل والمرجّح استكماله عبر أداء السلطة التنفيذية. وقد فرضته الأحداث بأبعادها الإقليمية التي تبدأ بالهزيمة العسكرية التي تعرّض لها “الحزب” في حربه مع إسرائيل. ولا تنتهي بسقوط نظام الأسد. وباعتباراتها الداخلية التي باتت محكومة بالحاجة إلى تمويل ورشة إعادة الإعمار، واستنهاض الوضع الداخلي، لكن بشروط صعبة جداً، ستصعب مواجهتها، طالما أنّ الوصاية الدولية منخرطة بالشاردة والواردة المحليّتين.
فعلاً، ما كان لأحد أن يصدّق أنّ بداية عام 2025 ستكون فوق التوقّعات. انتخاب جوزف عون بقرار خارجي واضح، لا لبس فيه، قرّر الثنائي الالتحاق به في الساعات الأخيرة تحت عنوان إبرام اتّفاق على بعض النقاط الأساسية، ومنها رئاسة الحكومة وتركيبتها. ثمّ تسمية نوّاف سلام رئيساً مكلّفاً بتشكيل الحكومة، خلافاً لرغبة الثنائي. بل ضمن مسار انقلابيّ، رجّح كفّة سلام على كفّة نجيب ميقاتي خلال الجولة الثانية من الاستشارات النيابية الملزمة، في سيناريو، لم يخطر ولا في الخيال.
تبيّن الوقائع، أنّ التحوّل الجذري، تجلّت معالمه بوضوح، مع تصويت “تكتّل لبنان القوي” لمصلحة رئيس محكمة العدل الدولية. مع العلم أنّ المعطيات كانت تشير إلى أنّ “التكتّل” سيكتفي بالورقة البيضاء. باعتبار أنّ هناك استحالة للتصويت لميقاتي. لكنّ الساعات الأخيرة التي حفلت بمشاورات عابرة للكتل النيابية، دفعت بالنوّاب العونيين إلى تصدي محور تسمية سلام، وهو ما رفع من حظوظه لتولّي رئاسة الحكومة.
فرصة باسيل لردّ “الطّعنة”
الأرجح أنّ جبران باسيل وجد في التسمية فرصة لردّ ما يعتبره طعنة من جانب الثنائي في انتخاب جوزف عون رئيساً للجمهورية. خصوصاً أنّه قرّر الانحناء لعاصفة التغيير الدولية ومجاراتها، من خلال تسمية سلام. بالتوازي مع سعيه إلى البقاء في السلطة من خلال الالتصاق بالعهد الجديد. ولو أنّه حاربه بشتّى الوسائل لمنع وصوله. لكن يبدو أنّ باسيل يخشى الذهاب إلى المعارضة، وفضّل إعطاء نفسه وحزبه فرصة مسايرة العهد الجديد ليكون شريكاً في تركيبة حكومته الأولى، فقلب صوته، من لا أحد إلى نوّاف سلام.
في هذه الأثناء، كان نواب عونيون يقودون سلسلة اتّصالات مع الكتل الأخرى، وتحديداً “اللقاء الديمقراطي” و”تكتّل الاعتدال” لوضعهم في صورة المسار الذي سيسلكه التكتّل. وتظهر المعطيات أنّ خيارات “اللقاء الديمقراطي” كانت تراوح بين اللاتسمية، بناء على رغبة وليد جنبلاط، وبين تزكية سلام بناء على رغبة تيمور.
في الواقع، من الصعوبة الاقتناع أنّ كفّة تيمور رجحت، وتحديداً على كفّة والده. لكنّ المطّلعين يؤكّدون أنّ اعتبارات الجنبلاطيّين انطلقت من حسابات مترابطة، بين مراعاة رياح التغيير التي هبّت على لبنان، وبين مراعاة المزاج الشعبي الراغب بتحقيق التغيير على مستوى السلطة التنفيذية، وهي وجهة نظر تيمور.
وليد يجاري تيمور
تؤكّد المعلومات أنّ قيادة الحزب الاشتراكي تواجه حالة من اللامبالاة، إذا لم نقُل النفور، على مستوى القواعد الشبابية، تجاه الطبقة السياسية برمّتها، قد تحرجها في صناديق الاقتراع النيابية. وهو ما يستدعي مواكبة المزاج الشبابي بإعادة النظر بأداء قيادة الحزب وخياراتها. من هنا إصرار تيمور على التمرّد على الطبقة والبحث في مسارات جديدة. وقد قرّر والده مجاراته هذه المرّة، ولو على حساب علاقته برئيس مجلس النواب نبيه بري.
لاحقاً، بعد تسمية كتلة جنبلاط، ولمّا كبرت كرة ثلج مؤيّدي نوّاف سلام، صارت من الصعوبة على الكتل الأخرى مواجهتها أو الوقوف بوجهها. من هنا، تحوّلت الموجة إلى تسونامي، أخرجت نجيب ميقاتي من السراي بحفنة من الأصوات. بعدما رفض الثنائي الشيعي التسمية، كموقف اعتراضي مفتوح على التصعيد، إذا لم يتمّ تدارك الوضع واستيعابه.
فعليّاً، مقابل حماسة مؤيّدي سلام، لتسميته رئيساً مكلّفاً، بما يشير إلى مسارات جديدة، لم تعرفها السلطة التنفيذية منذ عقود، كان الوجوم يخيّم على كثيرين. حتى رئيس الجمهورية لم يكن بأفضل أحواله، خشية تصادم لا يريده، مع الثنائي، قد يحول دون ولادة حكومته الأولى، أو بأحسن الأحوال تعثّرها منذ قيامها.
خياران أحلاهما مرّ
احتمال مقاطعة الحكومة من جانب الثنائي، يضع رئيس الجمهورية أمام خيارين أحلاهما مرّ: التوقيع على مراسيم حكومة مطعون بميثاقيّتها، أو رفض التوقيع. وكلا الاحتمالين يبشّران بانطلاقة غير سليمة للعهد.
مع ذلك، يرى كثر أنّ النتائج الكارثية التي فرضها العدوان الإسرائيلي، معطوفةً على خروج سوريا من محور إيران، يضعان الثنائي في موقع لا يحسد عليه. لأنّ الحاجة إلى تمويل ورشة إعادة الإعمار، التي تشترط السعودية للانطلاق بها إنشاء صندوق عربي تشرف على عمله هيئة دولية، والوصاية الدولية المفروضة على لبنان، قد تدفعان الثنائي إلى العضّ على الجرح مرّة جديدة، لهضم الانقلاب الذي تعرّضا له. حتى لو رفض المشاركة في الحكومة. لكنّه بالنتيجة، سيتسلّح بالهدوء والرويّة، والانتظار.
واقعية… أو معركة حياة أو موت؟
بهذا المعنى، يسود بعض الاعتقاد أنّ الثنائي سيتسلّح بالواقعية في مقاربته للانقلاب الحكومي، ليضع الطابة في ملعب رئيس الحكومة المكلف، بانتظار انجلاء غبار القواعد التي ستعمدها سلام للتأليف. ومن بعدها لكل حادث حديث. وفق هؤلاء، إنّ لجوء الثنائي إلى التصعيد، لا أفق مضموناً له، لا بل سيزيد من نقمة شرائح كبيرة من اللبنانيين، واعتراضهم على سلوك الثنائي.
لكن ما تسرّب حتى ساعات بعد ظهر أمس، يشي بأنّ مقاربة “الثنائي” تتجاوز المفاضلة بين ميقاتي وسلام، لكون ما تعرّض له كان بمنزلة انتكاسة أو هزيمة سياسية تُضاف إلى هزيمته العسكرية، وهي قد تجرّ سلسلة هزائم وانكسارات اذا لم يتداركها، بعدما صارت معركة حياة أو موت.
لهذا، ثمة من يرى أنّ الثنائي سيتسلّح بورقة تمثيله النيابي الشامل للطائفة لكي يرفع فيتو الميثاقية بوجه الحكومة، ومقاطعتها… ما قد يحرج الرئاسة الأولى ويمنعها من توقيع مرسوم الحكومة اذا كانت منقوصة الميثاقية، وبالتالي وضعْ سلام أمام واحد من خيارين: إما الاعتذار وإما البحث عن تفاهم مع الثنائي.
يقول المواكبون إنّه من غير المرجح أن يطلق الرئيس عون قطار عهده الرئاسي بمقاطعة شيعية لأولى حكوماته، مع ما يحمل ذلك من تبعات ستطبع سلوك الثنائي لا سيما في العمل التشريعي. مع الأخذ في الاعتبار أنّ عون يعد نفسه بقيادة ورشة تشريعية، إصلاحية، يفترض أن ترى النور قبل الانتخابات النيابية، وهي ممر إلزامي لاستعادة ثقة المجتمع الدولي واستثماراته. من هنا ضرورة ضمّ الثنائي إلى قافلة التوافق الداخلي، وإلا حُكم على عهده بالتقاعد المبكر!