العهد الرئاسي vs المافيا – الميليشيا

العهد الرئاسي vs المافيا – الميليشيا

الكاتب: صالح المشنوق | المصدر: نداء الوطن
13 كانون الثاني 2025

لم يتحمّس عموم اللبنانيين واللبنانيات لوصول شخص إلى سدّة الرئاسة مثل حماستهم لوصول العماد جوزاف عون الأسبوع الماضي. أقلّه منذ اتّفاق الطائف. من بعد اغتيال الرئيس رينيه معوّض، فرضت الوصاية السورية رئيسي جمهورية، هما الياس الهراوي وإميل لحود، من خارج إطار أي إرادة شعبية. من بعد إخراج جيش الأسد من لبنان، أتى ميشال سليمان إلى سدّة الرئاسة، كمرشّح “تسوية” أنتجه اتّفاق الدوحة، لكنه لم يمتلك أي مواكبة شعبية لافتة. من بعده أتى الرئيس ميشال عون مفروضاً بقوّة سلاح “حزب الله”، وكان له جمهوره الحزبي الواسع، لكنه لم يكن يحظى بدعم المواطن “العادي”، المتموضع خارج الاصطفافات السياسية. كما أنه كان مكروهاً من نصف اللبنانيين (أقلّه). مع الرئيس جوزاف عون القضيّة مختلفة تماماً.

صحيح أن الحماسة العارمة مرتبطة بمجموعة من الظروف، لا بشعبية قائد الجيش السابق. انتهاء الحرب في لبنان بهزيمة “حزب اللّه” عسكريّاً وسياسيّاً. سقوط نظام الأسد في سوريا واستقرار الوضع السياسي- الأمني هناك. صورة جوزاف عون كرجل نظيف الكفّ، مستقيم، يمتلك عقلية مؤسساتية، وقد نجح في إدارة المؤسسة العسكرية في أصعب ظروف مرّت عليها البلاد. نجح في محاربة تنظيم “داعش” في معركة “فجر الجرود”. رفض قمع ثوار 17 تشرين رغم إصرار العهد البائد (أي عهد ميشال عون) عليه بذلك. تجنّب إقحام الجيش في “حرب الإسناد” التي شنّها “حزب الله” على إسرائيل. اصطدم مع جبران باسيل، وهو ما يستفيد منه أي قيادي لبناني تقريباً بغض النظر عن طبيعة الخلاف وحيثياته (مع أن الرئيس عون كان محقّاً في رفضه إملاءات باسيل). كما أنه حمى المؤسسة العسكرية من تداعيات الانهيار المالي ومفاعيل الانصياع السياسي.

لكنّ ارتباط المواطنين بشخص جوزاف عون أتى عند تلاوة الرئيس المنتخب خطاب القسم، والذي جسّد عن حقّ آمال الأغلبية الساحقة من اللبنانيين. فقد أرسى خطاب القسم رؤية مناقضة تماماً للتجربة السياسية اللبنانية التي كرّستها تجربة حكم منظومة المافيا والميليشيا بكل جوانبها. خطاب تأسيسي، يرسم حدّاً فاصلاً بين مرحلتين: مرحلة الميليشيات (لم يلحظ الخطاب، وللمرة الأولى، كلمة “مقاومة”) والمحاصصة الطائفية – الحزبية والفساد المتفشّي والارتهان للمشروع الإيراني، ومرحلة الحياد الإيجابي واحتكار السلاح والإصلاح الجدّي والمقاربات المؤسساتية والوحدة الوطنية (الحقيقية). كان وقع الخطاب استثنائيّاً على الناس، تحديداً لأنه ابتعد عن الشعارات العامة، كما عن الفذلكات اللغوية الفارغة. بدا رصيناً ومتماسكاً وشجاعاً و(الأهم) عمليّاً. كأنه ينذر بانتهاء زمن “الصلبطة”. يشبه جوزاف عون، شخصيته، وتجربته، واستقامته (لفتني إيجاباً أن كل أفراد عائلة الرئيس المنتخب لم يعرف اللبنانيون عنهم شيئاً قبل وصولهم إلى مجلس النواب).

يشكّل عهد جوزاف عون منذ لحظة انتهاء خطاب القسم حالة “انقلابية” على حكم منظومة المافيا والميليشيا. بدا ذلك جليّاً عندما حاضر جبران باسيل برفضه “التدخلات الخارجية” و “خرق الدستور” (شيء سريالي فعلاً) كما عندما تمنّع نوّاب “حزب الله” عن التصفيق للرئيس وهو يتلو خطاب القسم. لكنّ الواقعية تفرض أيضاً الاعتراف بأن هذه المنظومة أصيبت ولم تقتل (أو تهرب إلى روسيا). ما زال مجلس النواب هو نفسه الذي انتخب قبل أن يتغيّر لبنان ومعه الشرق الأوسط. تمتلك فيه قوى المافيا والميليشيا (أقلّه) نصف النوّاب (لربّما على العهد الدعوة لانتخابات نيابية مبكرة، ولكن هذا بحث آخر). أولى بشائر استمرار سيطرة هذه القوى على المشهد السياسي في لبنان هي تسمية الرئيس نجيب ميقاتي لتشكيل أولى حكومات العهد، والذي يشكّل من دون أدنى شك (برمزيته على الأقلّ) محاولة الانقلاب الأولى على روحيّة خطاب القسم، الذي ذكر بالتحديد ضرورة “تغيير” الأداء السياسي. فبغضّ النظر عن تقييم أداء الرئيس ميقاتي، عجيب أن يأتي التغيير بالأداء السياسي مِمَّن تولّى رئاسة الحكومة في السنوات الثلاث الماضية.

لن تكون معارك الرئيس عون سهلة على الإطلاق، في الجنوب وفي القضاء وفي أموال المودعين، كما في التشكيلة الحكومية والإصلاحات الإدارية والعلاقات العربية. في كل ملفّ من هذه الملفات، المافيا والميليشيا ستكونان بالمرصاد لحماية مصالحهما. وبما أن نظامنا السياسيّ نظام برلماني، فإن قدرة الرئيس عون على التأثير ستعتمد قبل كل شيء على حضوره المعنويّ وقدرته على خلق ديناميكية عامة تواكب مشروعه. وهذا بدوره مرتبط بقدرته على استقطاب الرأي العام، كما دعم الرأي العام له من المواطنين العاديين إلى الإعلام إلى المجموعات المدنية إلى الناشطين إلى (بعض) الأحزاب. هؤلاء هم “نوّاب” العهد الرئاسي إذا قاتل يومياً دفاعاً عن خطاب القسم. هذا “عهد” الناس لك.