خاص – عودة الرياض: قطع الطريق أمام النفوذ التركي في لبنان
بعد طول غياب عن الساحة اللبنانية، ألقت السعودية بكلّ ثقلها، إلى جانب الضغوط الأميركية الكبيرة، من أجل تأمين وصول جوزف عون إلى الرئاسة بـ 99 صوتاً، بعدما انصاع الثنائي الشيعي للإرادة الدولية والعربية، ووضع اسم قائد الجيش في صندوقة الاقتراع.
وتبدو العودة السعودية إلى الملعب اللبناني طبيعيّة، بعدما انزاح نفوذ “حزب الله”، وسقط النظام الأسدي في سوريا، وتلاشت قوّة إيران ومحاورها. فالرياض تنفّذ ما تعهّدت به، من أنّها لن تتعاطى بالشأن اللبناني، إلّا عندما تصبح الأجواء مهيّأة لقيام سلطة جديدة، مستعدّة لإجراء الإصلاحات المطلوبة والتعاون مع المجتمعين العربي والدولي.
ولكن، هناك عوامل أخرى دفعت المملكة إلى الانخراط من جديد في الملف اللبناني. وعلى رأس هذه العوامل قطع الطريق أمام أيّ فراغ في الغطاء السنّي، قد تعمد تركيا “المنتصرة” في سوريا إلى ملئه.
وترجمة لهذه العودة السعودية التي تعزّزت بانتخاب قائد الجيش رئيساً للجمهورية، من المقرّر أن تكون وجهة زيارة الرئيس عون الأولى للخارج هي المملكة العربية السعودية، التي وجّهت له الدعوة إلى زيارتها في اتصال تهنئة أجراه وليّ العهد الأمير محمّد بن سلمان بالرئيس اللبناني الجديد.
وقبل ساعات من موعد الاستشارات النيابية الملزمة لتسمية رئيس الحكومة، اشتدّ الضغط للإتيان بشخصيّة تتماشى توجّهاتها مع الخطّ الجديد في لبنان. وتقول مصادر مطّلعة إنّ الرياض لن تنخرط لاحقاً في عملية إنهاض لبنان من كبوته، إلّا إذا اكتملت “سيبة” السلطة التنفيذية برئيس حكومة ينسجم مع ما ورد في خطاب القسم. ويعتقد المصدر أنّ ما حصل مع انتخاب الرئيس عون سيحصل مع تسمية رئيس الحكومة. والتوازنات التي فرضت وصول قائد الجيش هي عينها التي ستفرض وصول رئيس حكومة يتماشى مع تطلّعات المرحلة.
ولكن ثمّة من يعتقد في مقلب “الممانعة” السابق أنّ للعامل السنّي تأثيراً أكبر في اختيار رئيس الحكومة. لذلك يحاول محور “حزب الله” لعب أوراقه الأخيرة من خلال طرح اسم نجيب ميقاتي من جديد. وهو ربّما يعتقد أنّ هذا الخيار قد يكون مدعوماً من أنقرة، بحيث تكون لها حصّة مستجدّة في الساحة السنّيّة، التي غاب عنها سعد الحريري، كما غابت عنها الرياض طويلاً.
وقد يقرأ البعض زيارة ميقاتي لدمشق بعد يومين من انتخاب الرئيس عون، على أنّها سعي لاستقطاب الدعم التركي من بوّابة الشام، علماً بأنّ ميقاتي كان قد زار أنقرة في18 كانون الأوّل الماضي، على رأس وفد وزاري، والتقى الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان. ومعلوم أنّ لدى تركيا مشاريع إنمائية جاهزة، خصوصاً في الشمال، وعلى رأسها الاستثمار في تعزيز مكانة مرفأ طرابلس، للاستفادة من الازدهار المقبل على المنطقة، كما هو متوقّع.
ولهذا السبب عينه، يبدو أنّ السعودية تريد أن تضع حدوداً لإمكان تمدّد النفوذ التركي من سوريا إلى لبنان. وإذا كانت الكلمة الأولى في سوريا اليوم هي لتركيا الدولة السنّية الكبيرة، فإنّ الرياض لن تتخلّى عن الساحة اللبنانية، وهي الدولة السنّية الأكبر والأقوى وذات الاقتصاد الأوّل في المنطقة. وفي هذا الإطار أيضا تُفهم الاجتماعات التي تعقد تحت اسم اجتماعات العقبة، والتي تضم كلاّ من الأردن والسعودية والعراق ولبنان ومصر. واستكمالاً لهذه الاجتماعات، ينعقد في الرياض اليوم الأحد اجتماع لوزراء خارجية عرب وأوروبيين، بمشاركة وزير الخارجية السوري أسعد شيباني، لمناقشة العملية الانتقالية في سوريا، وبحث أيصال المساعدات الإنسانية إلى الشعب السوري، إضافة إلى الرفع التدريجي للعقوبات المفروضة على دمشق.
وإذا كانت تركيا تطمح لاستثمارات كبيرة في سوريا، تشمل قطاعات عدّة، منها المساعدة في بناء القوى العسكرية وإعادة بناء الإدارة وسواها، فإنّ الرياض أيضاً مهتمّة بمشاريع إعادة الإعمار، حيث الأضرار هائلة.
وفي لبنان كذلك، تبدو عمليّة إعادة الإعمار غير ممكنة من دون المشاركة الخليجية، والسعودية على وجه التحديد. إذ إن إيران ليست في وارد أن تدفع مبالغ كبيرة، لن تكون قادرة على استثمارها بعد الآن في النسيج اللبناني. ولا يستطيع “الحزب” أن يتغاضى عن عملية إعادة الإعمار في الجنوب والبقاع والضاحية، لما سيتركه ذلك من استياء في البيئة الشيعية. وإعادة الإعمار لن تتمّ إلّا بشروط سياسية، بدءاً بتشكيل سلطة بعيدة عن الخيار الإيراني، وصولاً إلى اعتماد الإصلاحات والحدّ من الفساد الذي استشرى كثيراً في عروق الدولة اللبنانية.
ومن هنا، تعتقد المصادر أنّ محاولات “الحزب” وحلفائه الالتفاف على اسم المرشّح الذي تطرحه “المعارضة” لرئاسة الحكومة، عبر العمل على تعويم اسم ميقاتي، هي محاولات لن يُكتب لها النجاح لأسباب كثيرة، منها أنّ “الحزب” نفسه بات على يقين أن الطريقة الوحيدة لإنقاذ نفسه هي اللجوء إلى ضمانة الدولة اللبنانية دون سواها، وأنّ محاولة الاتّكاء على الجانب التركي لترجيح اسم رئيس الحكومة، لن تكون في صالحه على المدى البعيد، لأنّ الطموحات التركية في لبنان ستطيح به، بينما المظلّة السعودية هي الضامنة للتركيبة اللبنانية بكل تلاوينها.