عاد لبنان ساحة مفتوحة للتنافس الإقليمي والدولي ولتجاذباتهما. وما عزز ذلك انتخاب رئيس جديد للجمهورية والعمل لإعادة تشكيل السلطة، الأمر الذي دفع دولاً كثيرة للمسارعة إلى تبنّي “الإنجاز” والتأسيس عليه. ولا ينفصل ما يجري في لبنان عن ما يجري في سوريا أيضاً، والتي تشهد هجمة عربية ودولية وبرامج للحضور فيها، وتثبيت النفوذ وفتح السوق السوري أمام الاستثمارات الكثيرة. إلى جانب الكلام الدولي حول أهمية إعادة تشكيل السلطة في لبنان وسوريا، وإنجاز الإصلاحات وغيرها من الترتيبات السياسية والإدارية، فإن نقاشات أخرى طغت، لها صلة بمسائل “طاقوية” وهذه تتصل بصراعات مديدة في منطقة الشرق الأوسط وفي البحر الأبيض المتوسط بالتحديد. تتزامن الأحداث أو المحطات مع بعضها البعض. إذ صادف موعد زيارة رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي إلى سوريا بعد يومين من انتخاب جوزاف عون رئيساً للجمهورية، والذي استقبل أول المهنئين، الرئيس القبرصي نيكوس خريستودوليدس.
ولم تكن مسارعة الرئيس القبرصي، إلى لبنان صدفة، خصوصاً أن قبرص كما دول أوروبية عديدة تبدي اهتماماً استثنائياً في لبنان من بوابات مختلفة أهمها “ترسيم الحدود البحرية في البحر المتوسط” وهو مشروع جرى التفاوض عليه بين لبنان وقبرص بعيد إنجاز “ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل”، لكن لم يتم التوصل إلى نتيجة. ما حمله الرئيس القبرصي أيضاً كان دعوة فرنسية باسم الاتحاد الأوروبي لزيارة بروكسيل. سعت قبرص إلى ترسيم الحدود البحرية مع لبنان برعاية أوروبية، وذلك في محاولة لقطع الطريق على “نفوذ تركيا” في البحر المتوسط، لا سيما أن أنقرة نجحت قبل سنوات بضمان نفوذها من خلال الاتفاق الذي أبرمته مع ليبيا، وكان هناك مسعى تركياً أيضاً لعدم ترسيم الحدود بين لبنان وقبرص من دون التنسيق مع أنقرة.
تقاطع على حساب توتال
بعيد سقوط النظام السوري، صرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بأن تركيا ستعمل سريعاً مع الإدارة السورية الجديدة في سبيل ترسيم الحدود البحرية، وهو ما أزعج قبرص التي تعتبر نفسها متضررة من أي تطور أو تقدم تركي في البحر المتوسط. ليس بعيداً أيضاً، كانت زيارة وزير الخارجية الإيطالي إلى سوريا ولبنان، خصوصاً وأن شركة “إيني” الإيطالية هي إحدى الشركات الأساسية المعنية بالتنقيب عن النفط والغاز في لبنان، وسط معلومات تتحدث عن علاقة مميزة بين إيطاليا وأميركا، بالإضافة إلى دور هذه الشركة في حقول الغاز الإسرائيلية، وعند هذه النقطة، يحصل تقاطع بين إيطاليا وأميركا وإسرائيل على حساب شركة توتال الفرنسية.
وعليه، يمكن فهم المسارعة الفرنسية لتثبيت الدور والنفوذ في عملية توفير الظروف الملائمة لإنجاز الاستحقاق الرئاسي في لبنان، وقد سارت فرنسا بقوة مع الموجة الأميركية السعودية لتكريس فوز جوزاف عون بالانتخابات، وسارع الرئيس الفرنسي إلى الإعلان عن زيارة مرتقبة سيجريها إلى لبنان حيث يفترض أن تكون الحسابات الفرنسية كلها حاضرة فيها، خصوصاً أن باريس لديها خطط واضحة للاستثمار في لبنان مؤجلة منذ العام 2020 وتحديداً منذ تفجير مرفأ بيروت، وقد نجحت في السنوات الماضية بالفوز في استثمارات بمرفأي بيروت وطرابلس بالإضافة إلى مجالات أخرى من بينها دخول شركة توتال إلى مجال التنقيب عن النفط والغاز.
طموح تركيا
كانت تركيا أكثر المستفيدين من سقوط النظام السوري، فحققت تقدماً كبيراً على الساحة السورية، وتلقائياً من يحرز التقدم ويعزز النفوذ في سوريا لا بد أن يكون لذلك انعكاس في لبنان، لا سيما أن زيارات المسؤولين اللبنانيين إلى دمشق مرّت بأنقرة وبلقاءات مع أردوغان، وفي لبنان ثمة كلام كثير عن مشاريع تركية جاهزة للاستثمار في بعض المرافق وأبرزها مرفأ طرابلس من خلال تعزيز خط مباشر باتجاه مرفأ مرسين. من هنا يمكن فهم الهجمة الغربية المرتدة باتجاه لبنان وسوريا كمحاولة لعدم جعل تركيا هي الدولة صاحبة النفوذ الأكبر على كلا الساحتين. من دون إغفال ملفات كثيرة أساسية وشائكة في سوريا أهمها ملف النفط في شمال شرق سوريا، وهي المناطق التي تقع تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية المدعومة غربياً، كما يمكن فهم خلفيات المواقف التي أطلقها وزيرا خارجيتي فرنسا وألمانيا خلال زيارتهما إلى دمشق، مع الإصرار على الحديث عن حماية “الأقليات” والحفاظ على دور الأكراد، علماً أن هذا الملف سيكون متروكاً لمعالجة يفترض أن تحصل بين تركيا وإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مع الإشارة إلى حجم التداخل الدولي والإقليمي في المسألة الكردية.
أمام هذا المشهد الذي يعج بتقاطر إقليمي ودولي على الساحتين اللبنانية والسورية، يبرز أيضاً حضور عربي وسعودي بالتحديد في كل من سوريا ولبنان. وسط قراءات تفيد بأن السعودية تحرص على العودة إلى الساحتين لعدم تركهما للآخرين، وجاءت الزيارات السعودية إلى دمشق، وبعدها كانت أول زيارة خارجية يجريها وزير الخارجية السوري إلى الرياض. وقد تحدثت معلومات عن استعداد سعودي للاستثمار في مجالات عديدة داخل سوريا وتزويدها بالنفط. تبدو السعودية وكأنها تريد أن تشكل توازناً مع القوى الأخرى ولا سيما مع تركيا. وفي لبنان، برزت العودة السعودية من خلال الضغط في سبيل انجاز الانتخابات الرئاسية عبر زيارتين لموفد سعودي، وصولاً إلى اتصال ولي العهد السعودي برئيس الجمهورية جوزاف عون والذي أعلن أن أول زيارة له ستكون إلى السعودية بعد تلقيه الدعوة.
في هذا السياق، تندرج زيارة رئيس الحكومة اللبنانية إلى سوريا، ربطاً بالسعي إلى معالجة المشاكل العالقة، وأبرزها ضبط الحدود، وترسيم الحدود البرية والبحرية بين البلدين، بالإضافة إلى بحث لاحق في حسم هوية مزارع شبعا. مسألة الحدود وترسيمها، لا يمكن أن تنفصل عن ما سيجري بشأن الحدود البرية للبنان جنوباً، وبشأن الوضع الحدودي في الجنوب السوري، كما أن ترسيم الحدود البرية والبحرية مع سوريا لا يمكنه أن ينفصل عن مسار ضبطها ووقف خطوط التهريب، وتحديداً تهريب السلاح، أو مشاريع الاستثمار بالنفط والغاز لاحقاً في سياق التنافس الدولي الإقليمي، حول الخط الذي سيتم اعتماده لتوريد الغاز إلى أوروبا، حيث لتركيا دور أساسي، ولإسرائيل أيضاً التي تراجعت قبل سنوات عن تحالف “إيست ميد” أي التحالف النفطي لدول شرق المتوسط بسبب صعوبة تحقيق مشروع إنشاء أنبوب لتوريد الغاز إلى أوروبا مروراً بقبرص.