خطاب القَسَم المكتوب “بالسّكين”..
يقف الرجل في ناصية البرلمان. الأنظار كلّها مشدودة إليه. والجميع يريد أن يسمع أوّل كلامه السياسي، بعد رحلته المستدامة مع العسكر. كان خطابه مدوّياً ومهولاً، بل مفاجئاً ومباغتاً، حتى لدى أكثر المتحمّسين لترشيحه وانتخابه. وقد بدا أنّ رئاسة جوزف عون ليست بداية عهد وحسب، بل أفول مشروع ونهاية مرحلة.
لا شكّ أنّ خطاب القسم، الذي أدلى به الرئيس جوزف عون، خطاب استثنائي في مرحلة استثنائية. لم يستعمل القلم في كتابته، بقدر ما كُتب بسكين فيه من الجرأة السياسية ما لم يلامسه رئيس لبناني منذ نصف قرن، وهو تعبير شديد التكثيف عن التغيير السياسي الهائل الذي ضرب المداميك العميقة للمعادلة اللبنانية، التي طالما كانت عصيّة على الكسر أو التفكيك.
غياب مفردة “المقاومة”
بالتصفيق الحارّ والعاصف، واكب النوّاب المواقف المرتفعة السقف للرئيس الآتي على ظهر تسونامي عربي ودولي غير مسبوق، وقد بدا أنّ خطابه المنحوت بعناية فائقة قد تمّت حياكته بإبرة متخصّصة في الحفر والنحت، ليس في الشكل وحسب، بل في المضامين العميقة، التي قاربت أكثر الملفّات حساسيّة على الإطلاق، استناداً إلى أدبيّات مستجدّة تتّخذ صيغة القطع والحسم، لا التسويف والمراوحة.
في قمّة النقاط السياسية، تغيب أيّ إشارة أو ذكر للمقاومة، ويحضر الموقف المتقدّم من السلاح. وهو موقف طالما كان ملتبساً لدى كلّ رؤساء الجمهورية منذ عام 2005 حتّى الآن. لكنّ الرجل بدا حازماً وقاطعاً لجهة احتكاره بيد الدولة، واحتكار كلّ ما قد يتفرّع عنه أو عن دوره، انطلاقاً من منع الاعتداءات الإسرائيلية والدفاع عن الأرض واسترجاع الأسرى وإعادة الإعمار وتطبيق القرارات الدولية، مروراً بضبط الحدود وحمايتها وترسيمها، وصولاً إلى محاربة ومواجهة الإرهاب، وهو ما يعني سحب كلّ الذرائع التي استخدمها “الحزب” على مدى عقود لتشريع وجوده وحضوره الأمنيّ والعسكري.
هذه مهمّة الدولة الجديدة التي بات عندها رأس، وقد شاء أن يرسم إطارها العامّ بعناوين مقتضبة، لكنّها شديدة الوضوح، لا حصانات فيها بعد اليوم لأيّ مجرم أو فاسد، ولا وجود للمافيات، ولا مكان لتهريب المخدّرات أو تبييض الأموال. وهذا هو الجانب التأسيسي للمرحلة المرتقبة، مع ما يعنيه هذا الالتزام من انتقالة نوعية وصاروخية على صعيد بناء العلاقات السويّة مع المحيط، وإعادة وصل ما انقطع مع العرب ومع العالم.
تغيير كامل اللّعبة
هذا السقف السياسي المرتفع الذي أضيف إليه كلام استثنائي وغير مسبوق عن المداورة في وظائف الفئة الأولى، وهذا من كبائر الأمور بالنسبة للماروني الأوّل في الدولة، علاوة على مقاربة دور رئيس الحكومة باعتباره شريكاً لا خصماً، يُعطي انطباعاً ناجزاً عن ذهنية مختلفة ومغايرة في إدارة الشأن العامّ ستفتح الوضع برمّته على تغيير كامل في اللعبة السياسية. تغيير تحت عنوان “الالتزام الصارم باتفاق الطائف”.
يبقى أنّ أهمّ ما تطرّق إليه في خطابه هو الإشارة المباشرة إلى استراتيجية دفاعية شاملة، وعلى كلّ المستويات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية، مع ما يعنيه هذا الكلام من رغبة باستيعاب “الحزب” لا بكسره، على اعتبار أنّ الذهاب نحو بناء دولة قويّة وقادرة لا يمرّ بالضرورة فوق جثّة “الحزب”، بل بالتفاهم معه. وهذا منطق عاقل ورشيد، ويُمكن التأسيس عليه لاستعادة التوازن الداخلي، بعيداً من أصحاب الرؤوس الحامية والقلوب المحشوّة بالضغائن التي تُنادي بخلاف ذلك. وقد أثبتت التجارب عبر التاريخ أنّ هذه البلاد لا تحتمل فكرة العزل أو الاجتثاث.
يبقى أنّ تضمين خطاب القسم بالفكرة التاريخية حول الحياد الإيجابي، التي صارت لاحقاً مشروع بكركي المستدام، هو المقدّمة الحقيقية لصناعة مستقبل زاهر بعد الانتهاء من ترتيب الواقع القائم. ولا شكّ أنّ الوصول إلى هذه الغاية يعني حلّ معضلات لبنانية ضاربة ومتجذّرة ومستحكمة. وهذا بحدّ ذاته يُشكّل قفزة هائلة خارج الصندوق وخارج الدوائر المغلقة، إن عبر الحياد الطوعي أو التحييد القسري، حالنا في ذلك حال غالبية الدول التي تُشكّل حاجزاً بين دول أو مشاريع توسّعية.
الخطاب ممتاز، بل ويُلامس الحلم اللبناني الذي طالما ظلّ حبيس المخيال العامّ، وهو على صعوبته وربّما شبه استحالته، يكاد يكون في متناول اليد في هذا الظرف تحديداً، لا سيما في ظلّ اهتمام عربي ودولي استثنائي، وبالتزامن مع تغييرات جذرية تشهدها المنطقة برمّتها، إضافة إلى الزلزال العنيف الذي ضرب الوضع الداخلي، والتفكّكات والتصدّعات العميقة التي أصابت التركيبة السياسية التقليدية على مدى العقدين الماضيين.
هذا الأمر يحتاج سلسلة من الخطوات الضرورية، في مقدمها قيام حكومة متجانسة ومتوثبة للتغيير والتكامل مع الرئيس عون وروحية خطابه الاستثنائي.