وداعاً أحمد عدويّة… أسطورة الأغنية الشعبيّة

وداعاً أحمد عدويّة… أسطورة الأغنية الشعبيّة

الكاتب: شريف صالح | المصدر: النهار
30 كانون الأول 2024

بينما كانت أمّ كلثوم تغنّي في آخر حفلاتها: “ليلة حب” و”القلب يعشق كلّ جميل”، وتُسدل الستار، كان عدوية يصعد في ملاهي شارع الهرم ويغنّي: “السح الدح إمبو”.
إنّها لحظة تاريخية فارقة، بين عصري عبد الناصر والسادات، الاشتراكية والرأسمالية، قصائد شوقي ومواويل حسن أبو عتمان، الجمهور “الرسمي” متذوّق “الفن الرفيع”، والجمهور “الشعبي” الذي يتقافز حول المغنّي. صرامة الانضباط “الكلثومي” مقابل عفوية الارتجال “العدوي”.
شتّان ما بين “الدخول بالملابس الرسمية”، وفوضى “الكباريهات” وعري الراقصة المصاحبة، وبين التأليف الموسيقي والإيقاعات الخفيفة. نقلة من السمّيعة وكبار الموظفين إلى الأثرياء الجدد.
ليس ثمّة تأريخ لمئة عام من الفنّ والثقافة في مصر إلّا عبر المقارنة بين أكبر ظاهرتين في تاريخ الأغنية: أم كلثوم التي افتتحت القرن العشرين، وعدوية الذي ختم هذا القرن، حيث علقت باسمه وشخصه وتجربته ظواهر لم تتكرّر مع أيّ مطرب شعبي آخر، سنحاول في ما يأتي رصدها.

المجد للهامش
ولد عدوية في المنيا (جنوب مصر) صيف العام 1945 من أب يعمل تاجرًا للمواشي، ووسط عدد كبير من الأشقاء. على عكس أم كلثوم التي ولدت في السنبلاوين (شمال مصر) من أب مؤذّن في مسجد القرية وليس لديها سوى أخت وأخ.
في لحظة ولادته كانت “الست” تعيش عصرها الذهبي وتتوّج من الملك بلقب “صاحبة العصمة” (يعادل لقب باشا للرجال).
ولو قارنا بدايات الاثنين: ارتبطتْ سومة في نشأتها بالثقافة الدينية وظلت ممثلة لها، حتى حينما جاءت إلى القاهرة وغنت في بعض الصالات، سعت للارتقاء بالأغنية وتكوين “تخت” شرقي راق.
بينما عدوية ارتبط بالأفراح الشعبية، وشارع محمد علي (شارع العوالم)، بعيدًا عن أيّ ثقافة دينية، وكان الغناء بالنسبة إليه مجرّد “نمرة” يؤديها في فرح أو ملهى ليلي.
عبر  تاريخ أم كلثوم عن التصوّر الرسمي للغناء، وتمثيل مؤسساته المعتمدة مثل لجنة الاستماع في الإذاعة، أمّا عدوية فأصبح الممثل الشرعي للتصوّر غير الرسمي.
صحيح كان ثمّة تاريخ للأغنية الشعبية المعبرة عن الناس، في الأفراح والأحزان، ومواويل وإنشاد ديني، لكنّ وسائل الإعلام لم تكن تبالي بممثلي هذا التيار، ونادرًا ما يسمح له بالظهور في الإذاعة والتلفزيون، أو حتى يخضع للدراسة في المعاهد المتخصصة، كأنه تيار موصوم فنيًا وأخلاقيًا. بل سعت الدولة إلى تبنّي أغنية شعبية منضبطة وخاضعة للأعراف الرسمية مثلها محمد عبد المطلب ومحمد رشدي ومحمد قنديل وغيرهم.
لكن عدوية لم يكن ينتمي لأيّ تصورات رسمية سواء الكلاسيكية أو الشعبية، بل كان أقرب إلى نبتة برية تزامن بزوغها مع تحوّلات اجتماعية وسياسية عميقة في عهد السادات، حيث تراجع الاهتمام الرسمي بالثقافة، وتقدّم تيار الإسلام السياسي وخفّت قبضة الرقابة على الغناء.
ما يجعل عدوية مختلفًا، ليس أنّه جرى تقليده والتأثّر به، كما في تجارب حكيم وحسن الأسمر وشعبان عبد الرحيم ورمضان البرنس، وإنّما لأنّه منح الصدارة للهامش، بدليل أنّ عبد الحليم (مطرب ثورة يوليو العاطفي)  أدّى أغنيته “السح الدح إمبو”.

عصر الكاسيت
انتمت الظاهرة الكلثومية إلى عصر الأسطوانات و”الفونوغراف”، بينما انتمى عدوية إلى عصر الكاسيت، وانتقلت تجربة السماع من عموميتها وحسّ المشاركة، إلى الخصوصية والفردانية، فكلّ شخص يشتري الكاسيت ويستمع إليه وحده. ونشطت أدوات كثيرة روّجت عصر الكاسيت، مثل سائقي التاكسي والميكروباص.
وأفادت ظاهرة الكاسيت كلّ نجوم الغناء بلا استثناء، لكن يظلّ أكبر معبرين عن الظاهرة، والأكثر رواجًا، هما أحمد عدوية الذي فرض نفسه “رقمًا صعبًا”. أمّا الآخر فهو الشيخ كشك بخطبه النارية والتي كانت تُعبّأ فورًا في أشرطة، ورصد نجومية الاثنين الكاتب الصحافي محمد الباز في كتابه “كشك وعدوية: أيام الوعظ والسلطنة”.
بعيدًا عن أيّ حكم قيمي يُعتبر الرجلان رمزًا لانحطاط الذوق، فالمؤكّد أنّهما كانا أكبر ظاهرتين شعبيّتين مثيرتين للجدل، في عصر الكاسيت، وتكفي الإشارة إلى أنّ شريط “السح الدح إمبو” باع مليون نسخة فور صدوره مطلع السبعينات.