فظائع صيدنايا… عائلة سمير الطّباع تروي: الجرذان التهمت أجزاء من جسده
قلب الأم لا يخطئ، ولا دموعها التي ذرفتها منذ عام 2013، تاريخ اعتقال النظام السوري ابنها سمير الطباع وحفيدها من مخيم اليرموك.
كان الأول في العقد الثالث والثاني في حدود الـ18 عاماً حين قدم “غرباء من الاستخبارات”، وغاب الاثنان خلف المشهد القاتم.
مصير المواطن اللبناني سمير لا يخطر في بال آدمي، أن يترك ابنها للجرذان تنهش جسده حياً. كانت الأخيرة جائعة وشرسة، وهزاله حال دون الدفاع عن نفسه، كما أحوال كل من دخل إلى سجن صيدنايا في ريف دمشق وغادره جثة أو “قطع غيار” أو واقفاً على قدميه لكن من دون أثر لذاكرة أو صورة تبقى في البال لعائلة أو أبناء أو حتى اسم يعرّف عنه.
حول الأم المفجوعة في المشرحة حيث أودعت الجثث، يخفي المحيطون بها أن ابنها كما حال المعتقلين الذين عُثر على جثثهم، ربما تعرضوا لبيع أعضائهم التي اقتلعت منهم وهم أحياء. عين أو كلية أو أطراف برسم البيع.
وكانت الأم تصرخ في وجه الفريق الطبّي. لا تأخذوه إلى المشرحة لأن مجدداً قلبي لا يخطئ: “نعم هو ابني… لا داعي لاختبارات الـ”دي أن آي”.
وهكذا انتقل سمير جثة إلى مشفى المجتهد في حي الميدان في دمشق، المكان نفسه المدون على شهادة الولادة.
هناك وضع الرئيس الأسبق شكري القوتلي الحجر الأساس للمشفى الحكومي عام 1947، واعداً أهل دمشق بطبابة مجانية، وقد بناه على شكل فراشة تدخل الشمس من جميع جوانبها، بجوار معبد روماني فيه مقابر وقنوات ري، ذلك أن الرومان كانوا يعتقدون بانبعاث الموتى، أما أم سمير المتكئة على حافة إسمنت غير مطلية، والتي لا تقوى على استقامة ظهرها المعوج بفعل غدرات السنين، فلها وجهة نظر مغايرة: من يرحل لا يعود، ومنذ أخذ ابنها عنوة وغاب في الطريق المظلم، تقول: “لن يعود”. وتسأل: “من عاد من هذه الطريق. أخبروني. من عاد؟”.
لا تعرف أم سمير عدد الذين اعتقلهم بشار الأسد. آلاف. مئات الآلاف. أكثر! ما تعرفه أن معظم بيوت سوريا اختبرت وجع الفقدان وعتمة الزنازين. حتى أولئك الذين ناصروا البعث أو النظام أو بشار نفسه، لم يسلموا من أدوات التعذيب والدواليب ومكبس الأجساد الذي يشبه كثيراً مكبس الزيتون وذلك الحبل المخضب بدماء الذين أعدموا من دون محاكمة. تشير بيدها لمن تعرفه من بين الجموع: الشاب هناك يبحث عن والده وثلاثة من إخوته ممن اعتقلوا بينما كانوا في طريقهم إلى المدرسة قبل عشر سنوات، وهناك ذاك المتكئ على الجدران لا يزال يبحث عن شقيقته. لقد دفع مرة للمخبر عشرة آلاف دولار لمعرفة إن كانت لا تزال حية. أخبره المخبر: أبشر هي حية وقد أنجبت ثلاثة صبيان. كيف تنجب في السجن؟ لم يسأل الأخ المكلوم. يدرك خفايا السجون وقد سبقها إلى العنابر وأفرج عنه قبل أن ينقل إلى “العنبر الأحمر” في سجن صيدنايا، حيث الداخل مفقود والخارج مولود.
وماذا عن سمير؟ تغرق الأم في بحر من الدموع وفي ألف سؤال عن موته؟ كيف ومتى وهل اقتلعوا واحدة من عينيه؟ أسئلة أفقدتها رباطة جأشها. بكت وغابت عن السمع.
تستلم “أم ربيع”، كنتها، دفة الكلام: “كان سمير يعمل في صيانة البرادات. متزوج، وله أولاد. مكافح وقد أصبح مثل “الشلمونة” بفعل الجوع الذي استشرى في مخيم اليرموك، هذا قبل أن يغدو معتقلاً”.
هم يأخذون الشباب لسبب، ومن دون سبب. سمير نموذجاً، وإن عاد لا ثياب تدثر جسده المدمى. يقول شاب جاء يسأل عن عمه، وابن عمه، في المشرحة نفسها: “هنا في سوريا، نعرف جيداً أن بشار الأسد هو المسؤول المباشر عن سجن صيدنايا. الآمر الناهي، والحاكم بأمر المعتقلين. وحده يعرف أبواب السجن وفتحات التهوئة وعدد الطوابق والخنادق واحتمال وجود سراديب من عدمها. الوثائق الحساسة محصورة به وحده، ربما يحفظها في غرفة نومه”.
“محظوظة أنت يا أم سمير”، تقول حاجة جاءت تبحث عن ابنها المفقود منذ 20 عاماً. تعزيها: “على الأقل سيكون له قبر وبالإمكان زيارته متى شئت، أما ابني، فلا”. تضرب الحاجة الأرض بعصاها “عله يسمع”، هي التي ما زالت تعتقد أن ثمة سراديب مخفية لم يُكشف عنها بعد، معزية النفس باحتمال عودته: “الخوذ البيضاء أوقفت البحث، لكننا مستمرون لأن ثمة آلافاً من المعتقلين ما زالوا مجهولي المصير”. ولأجلهم نشر الدفاع المدني السوري الإعلان الآتي: “ندفع 5 آلاف دولار لمن يقدم معلومات تساعد في العثور على أماكن السجون ومراكز الاعتقال السرية التي فيها معتقلون”.
في المشرحة، تفوح رائحة الجثث، والغضب كذلك. “ما كان يجدر العبث بالأوراق، وتركها تتطاير في الشوارع مثل لعبة انتقام”. يقول والد طاعن في السن: “ما كان يجدر بأفرع الأمن والمقار الحساسة في دمشق وريفها أن تتعرض للنهب والتخريب، في وقت يحتاج فيه السوريون لمعرفة فحوى تلك الأوراق في سياق تحقيق العدالة بعد الأسد”.
يسخر المسن: “أحدهم قال إن ورقة وقعت في يده تفيد باحتمال مرور رجل الدين اللبناني موسى الصدر في سجن صيدنايا في حقبة سابقة”. هل كان يمزح؟ لا أحد يعرف. إنه مجرد كلام والوثائق قد تناثرت في الهواء.
وبانتظار ثبوت أنه “سمير”، ويتطلب ذلك زهاء أربعة إلى خمسة أيام، الأمر محسوم من قبل والدته: “قلب الأم لا يخطئ. قلب الأم لا يخطئ…”. وكم من أمهات واقفات على أبواب المشارح، هنا في سوريا، في صف طويل حيث المعطيات تفيد: “في سجن صيدنايا وحده وصل نحو 4300 معتقل لغاية 28 تشرين الثاني(نوفمبر) 2024. وبتاريخ 8 كانون الأول (ديسمبر) الجاري، الساعة 11 صباحاً، غادر آخر معتقل بعد وصول الفصائل المسلحة. وبتوقف البحث والطلب من الأهالي عدم التجول في الساحات خشية من وجود ألغام مزروعة، انطوت صفحة قاتمة وسجل التاريخ للأجيال: في هذا المكان، في صيدنايا، الإعدامات جرت أسبوعياً أو ربما مرتين في الأسبوع، سراً، واقتيدت خلالها مجموعات تضم أحياناً 50 شخصًاً، إلى خارج زنزاناتهم، وشنقوا حتى الموت”.
ومنذ عام 2011 قُتل في سوريا، وفق تقرير لمنظمة العفو الدولية، أكثر من231 ألف شخص، ويعد النظام السوري مسؤولاً عن مقتل أكثر من 86 في المئة منهم.
وكان 157 ألف شخص في عداد المختفين قسراً، بينما قتل أكثر من 15 ألفاً تحت التعذيب. ولا تزال عائلات لبنانية تسأل عن الذين غُيبوا أو اختفوا قسراً في غياهب النظام السوري.
بالنسبة لأم سمير، ابنها لم يعد رقماً، المعتقل الذي يحمل الرقم 19. لقد عاد، وإن في كفن.