تموضعات انقلابيّة لبنانيّاً بعد الزلزال السّوريّ؟
تسارعت الأحداث إلى حدّ إحداث زلازل متتالية لم تنتهِ بعد. ففيما كان خصوم “الحزب” يرصدون بدء تفكيك البنى التحتية العسكرية للمقاومة “بدءاً من جنوب الليطاني”، فوجئ العالم وحلفاء المحور، كما أخصامه، بتدحرج كرة تفكيك “البنى التحتية” لأحد أهمّ مواقع نفوذ إيران في المنطقة مع سقوط نظام بشار الأسد.
على الضفّتين اللبنانية والسورية، ومن ضمن أجندته الأمنيّة، كان العدوّ الإسرائيلي يقطع الطريق نهائيّاً على احتمال إعادة تطوير “الحزب” لقدراته العسكرية، وربّما طرق إمداده الماليّة، وهو ما يُمكِن أن يؤثّر على إعادة الإعمار، ويوسّع رقعة احتلاله للجنوب السوري، ويكرّس حرّيّة حركته العسكرية في لبنان من دون أيّ رادع.
حتى يوم أمس لم تكن الخروقات الإسرائيلية الفاضحة لاتفاق وقف إطلاق النار قد تقلّصت رقعتها على الرغم من بدء لجنة الإشراف على تطبيق القرار 1701 اجتماعاتها يوم الإثنين، فيما أفادت معلومات بأنّ الجانب اللبناني عرض لائحة تفصيلية بالخروقات أمام أعضاء اللجنة منذ لحظة بدء تطبيق الاتفاق.
كما عَلِم “أساس” أنّ هذا الاجتماع أسّس لبدء توغّل الجيش بدءاً من يوم أمس في مناطق كان تمركز فيها العدوّ ثمّ باشر انسحابه منها، بدءاً من القطاع الشرقي، حيث سيتمّ مسح هذه البلدات (محور الخيام – كفركلا – العديسة…) والتأكّد من خلوّها من السلاح والألغام والعناصر الحزبية “المُسلّحة”، ثمّ السماح للأهالي بالتوجّه إليها. كما أنّ التواصل يحصل يومياً بين الجانب العسكري في الجيش اللبناني والضبّاط الأميركيين والفرنسيين لمتابعة التفاصيل على الأرض، بينما تحصل الاجتماعات في الناقورة، بحضور ضبّاط إسرائيليين، وفق أجندة يُتّفق عليها مسبقاً.
تخوّف حكوميّ
في هذا السياق، ثمّة اعتراف ضمنيّ من جانب أوساط رسمية لبنانية بأنّه جرى إبطاء تشكيل لجنة الإشراف وبدء اجتماعاتها، واستطراداً تأخّر انتشار الجيش، وهو ما خلق حالة إرباك كبيرة في الأسبوع الأول، وذلك بقرار خارج عن إرادة الدولة اللبنانية لإعطاء إسرائيل الوقت الكافي لإنهاء ما لم تتمكّن من إنهائه خلال الحرب.
في الوقت نفسه، كان هناك تخوّف حكومي كبير من حصول اصطدام بين الجيش من جهة وبعض الأهالي وعناصر تابعة لـ”الحزب”، في حال أُعطيت الأوامر بالمصادرة الفورية لمخازن الأسلحة أو أيّ عتاد عسكري وصولاً إلى مخازن الصواريخ. لكنّ الفترة الفاصلة بين إعلان وقف النار وبدء إسرائيل الانسحاب كان كافياً، برأي مراقبين، لتقليص احتمالات هذا الصدام.
النّكسة الكبرى
هكذا بعد أسبوعين من الإعلان المشترك عن بدء تطبيق الآليّة التنفيذية للقرار وإعلان الجيش جهوزيّته لتوسيع انتشاره جنوب الليطاني، كرّست إسرائيل على الأرض ما نفى لبنان الرسمي وروده في ورقتَي الاتّفاق والضمانات، وهو حرّيّة الحركة للعدوّ الإسرائيلي جوّاً وبرّاً واستكمال أجندته العسكرية التي حملت عنواناً واحداً: القضاء على ما بقي من ترسانة “الحزب” وتصفية ما بقي من لائحة قياداته.
تزامن هذا الواقع مع النكسة الكبرى في سوريا، بالنسبة لمحور المقاومة، عبر هروب بشار الأسد وسقوط النظام السوري. في هذا السياق نشأت قناعة لدى أوساط رسمية بأنّ المعطيات التي قد تتكشّف تباعاً ستشكّل إدانة أكبر للنظام وضغطاً أوسع على حلفائه في الداخل اللبناني، لا سيّما مع أفول الوهج الإيراني في المنطقة، وتنفيذ إسرائيل، كما قالت، أكبر عملية قصف جوّي في تاريخها ضدّ مواقع جيش النظام السوري، والقضاء على سلاحه الجوّي والبحري والبرّي.
“الحزب” مُحرَج
حتى الآن يمكن رصد عدّة مؤشّرات تبقي الداخل اللبناني رهينة انتظار المزيد من المفاجآت:
– بَرَزَ الموقف الرسمي الأوّل لـ”الحزب” من سقوط نظام بشار عبر تقديم قناة “المنار” مقاربة غير واقعية للأحداث بالقول إنّه “سلّم (الأسد) بعدما قاوم لعقود ولم يستسلم لكلّ الإغراءات التي أرادت تغيير قبلته السياسية عن فلسطين”.
لاحقاً، أبرز قياديّو “الحزب” معادلة “ما جرى في سوريا لا يمكن أن يؤثّر على قدرات المقاومة”، مع التحذير بأنّ “صبر المقاومة له حدود ولا يمكن أن تترك العدوّ يتصرّف كما يحلو له”، ردّاً على الخروقات الإسرائيلية في جنوب لبنان. هذه الخروقات التي تجاوزت حدود لبنان لتصل إلى احتلال جبل الشيخ، المنطقة الاستراتيجية المُشرِفة على دمشق ولبنان، وضمّ المنطقة العازلة مع سوريا، تضع الحزب أمام إحراج هو الأكبر منذ بدء تطبيق الاتفاق وربّما بين خيارين: الخضوع للأمر الواقع أو إثبات الوجود من خلال عمليات نوعية.
– في محيط الرئيس نبيه بري، الصامت الأكبر، من يُذكّر بالعلاقة السيّئة التي سيطرت على خطّ عين التينة – قصر المهاجرين بعد عام 2005، وانقطاع الاتّصال بينه وبين بشار الأسد. ثمّة أيضاً من تحدّث في محيط الرئيس برّي عن مرحلة جديدة في المنطقة، أشبه بموجة عملاقة، لا يمكن لأحد مواجهتها. والواقعية السياسية تفترض التسليم بأنَّ “المحور تهاوى”، لكن هذا لا يحجب التمسّك أكثر من أيّ وقت مضى بمعادلة العداء لإسرائيل والتصدّي لمشاريع التطبيع في المنطقة. منذ الآن بات السؤال مشروعاً عن مآل تحالف “الثنائي الشيعي” بعد التسونامي الذي ضرب المنطقة.
– بمعزل عن الأخطار الحدودية التي دفعت الجيش اللبناني إلى تنفيذ أكبر انتشار منذ الطائف في جنوب الليطاني وشماله، وصولاً إلى الحدود الشرقية والشمالية، وتكثيف الانتشار العسكري في الضاحية الجنوبية وكلّ مناطق التماسّ، واستنفار باقي الأجهزة الأمنيّة، يبدو الداخل اللبناني أمام تموضعات سياسية قد تكون انقلابية بفعل الزلزال الذي ضرب “الحزب” في الداخل، ثمّ سقوط نظام بشار الأسد وحاجة بعض قوى الداخل إلى إعادة حساباتها.
تقول مصادر سياسية مطّلعة لـ”أساس”: “كلّ الأمر يتوقّف عند تحلّي “الحزب”، وشريكه الرئيس بري، بالواقعية السياسية والتسليم بأنّ صفحة محور الممانعة قد طُويت. وتحديداً، على “الحزب” التسليم بتسليم سلاحه الذي انتفت وظيفته”. لكن لا أحد، على ما يبدو، قادر على ترسيم معالم المرحلة المقبلة، لا سيّما أنَّ الاستحقاق الرئاسي سيعطي مؤشّراً إلى ذهنيّة التعاطي في الداخل من قبل فريق يشعر راهناً بالانتصار على فريق آخر.