العودة “الباردة” إلى الجنوب: خسارتنا كبيرة
عودة باردة
على عجل وضعت حقائب الثياب في السيارة وانطلقت نحو الجنوب. رحت أردد في ذهني أن “الشمس تشرق من الجنوب”، ربما كتأكيد لا إرادي على ارتباطي بتلك الأرض وضرورة عودتي إليها.
ومع ازدحام السيارات تشابكت الأفكار والأسئلة التي لم أجد لها أجوبة: كيف سيكون حال الطريق؟ كيف ستكون ردّة فعلي حين أرى الدمار؟ مَن سيستقبلنا عند مدخل القرية؟… أوّل عقبة تجاوزتها هي الوقت. فبعد ساعتين ونصف دخلت قريتي، لكن دموع الفرح التي حاولتُ حبسها طيلة الطريق، جفَّت فجأة، وانحسرت الضحكات التي حملتها معي لتوزيعها على الناس حين أصل. فعلى مشارف البلدة، شبّانٌ وجوههم باردة كوجوه العائدين الذين التقيتهم على الطريق. “راجمة” صواريخ فارغة يلفّها غطاء كبير بدت عن يميني، لم أكترث لها، لكنها زادت برودة المشهد.
انعطفتُ يساراً متّجهاً بطريق فرعيّ نحو الحارة القديمة التي كبرت فيها. منزلٌ متضرّر عن يميني، وخلفه آثار تخبر بأن منزلاً ثانياً كان هناك وانمحى. حجارة متناثرة على الطريق، أسلاك نحاسية تتدلّى من أعمدة الكهرباء. محال تجارية هُدِمَت بالكامل، بيوت بجدران مفتوحة ومشرّعة للهواء البارد. يقف جاري أمام منزله يحاول تهنئتنا بالعودة سالمين، لكنه لم يستطع إخفاء حسرته على منزله الذي لم يعد صالحاً للسكن. يسألني عمَّن سيعوِّض عليه خسارته، وأين سيبيت ليلته وكيف سيتصرَّف. لم نملك أي إجابة.
ببطءٍ تجاوزتُ الركام المتناثر على الطريق. توجّهت نحو منزل أهلي لأطمئن عليه واطمئنهم أنّي وصلت قبلهم. لا أضرار مادية في المنزل ومحيطه. لكن الأضرار المعنوية جسيمة. فالمنزل عبارة عن طابقين باردين، ومحيط كئيب لا يخرق صمته سوى أصوات طائرات الاستطلاع الإسرائيلية التي تحوم في الجوّ، وبعض رشقات رصاص المبتهجين بالعودة.
دمار كبير
عدت أدراجي نحو منزلي في الطرف الآخر من القرية. برودة وكآبة تلازمان مسيرتي. أشخاص كثر التقيتهم في الطريق، ألقيت عليهم تحيّاتي فردّوا بنظرات استغراب فهمت منها أنّ لا مكان لفرحتي في هذه اللحظة. وعلى الشارع العام، وجوه أعرفها لكنها تسير بغرابة وبلا ابتسامات عهدتها. حيَّيت جارتي الجالسة قرب محلّ الألبسة الخاص بها، فلم تردّ التحية. تذكّرت أن شقيقها سقط شهيداً تحت الركام. وعلى طول الطريق، كلّ واجهات المحال محطّمة والحجارة في الطريق تُخبِرُ عن حجم الكارثة وكلفتها المادية التي يستحيل على أصحابها تعويضها من مالهم الخاص.
في الساحة العامة دمار رهيب. في الأصل هي أشبه بالوسط التجاري للقرية، كل شيء تقريباً موجود حولها. الملاحم ومحال الخضار والمقاهي ومحال السمانة وشركة لتحويل الأموال ومحل للحلويات وحلاّق ومحال ألبسة وألعاب… كلّ ذلك بات ركاماً على الأرض أو دمّر جزئياً وأصبح خارج الخدمة. للحظات ظننت انّي لا أعرف هذا المكان، لكن فوراً تعرّفت على ملامح كل شيء.
إلى الطرف الآخر من البلدة، المشهد ذاته، زجاج وحجارة ودمار يسأل وإن بخجلٍ عمَّن يعوِّض الخسارة المادية والمعنوية. وقبل الصعود إلى منزلي، توقّفت في بيت صديقي الذي سبقني بالوصول وسارعَ لتفقُّد خسائره. عشرات الدجاجات سُرِقَت، عشرات الشتول اليابسة، حبّات الفاكهة متساقطة على الأرض، عشرات كيلوات من الجبنة التي كان يستخدمها في صنع الحلويات، تلفت بفعل انقطاع الكهرباء، برّاد بات خردة، عشرات الكيلوات من الفول والحمّص كان قد حضَّرها لمطعمه الذي افتتحه قبل النزوح بنحو شهرين، كلّها أصبحت نفايات تعبق رائحتها النتنة بالمكان… والنتيجة، نحو 4 آلاف دولار كقيمة مقدَّرة للخسائر، يضاف إليها زجاج واجهة المحل والسقف المستعار.
فرحة لم تكتمل
دخلتُ منزلي كغريبٍ بعد أن ركنتُ فرحتي جانباً مذ رأيتُ هولَ المشهد في القرية. بحثتُ وسط رائحة العفن والرطوبة عن خرابٍ أواسي به مَن خسروا الكثير، فلم أجد غير زجاج أحد الأبواب، تناثر في الغرفة، والكثير من الغبار والكثير من الحشرات في المطبخ.
فرحة العودة لم تكتمل. ربما لم يجدر بي إعلان الفرح، فأنا خسرت أيضاً في هذه الحرب. خسرت مالاً كنت أحاول ادّخاره لإنجاز مشروع بناء منزلي الخاص، فأنا أعيش ببيت مؤجَّر، بعد خروجي من منزلي في الضاحية الجنوبية لبيروت قبل نحو 4 سنوات. تذكّرت في هذه اللحظة أنّ لي بيتاً في الضاحية لا أعلم عنه شيئاً، ربما قُصِفَ أو تضرَّر، وفي الحالتين فُتِحَ حساب الخسائر لديّ. خسرت ابتسامات أهل قريتي وخسرت صورة شوارعها ومحالها الملتصقة بذكريات طفولتي، وخسرت ضحكة أطفالي على مدى سنة وشهرين، وخسرت كمواطنٍ في هذه الدولة، اقتصاداً جنوبياً كان يحاول انتشال نفسه من خراب الانهيار الاقتصادي الكبير في العام 2019. وخسرت أماناً كنت أحلم أن أنعم به… صفحة الخسائر لم تُطوَ بعد، فالأيام المقبلة ستسجِّل المزيد. ومع ذلك، لا بدّ للأيام أن تعيد الدفء لشوارع قريتي وأهلها، فنتخطّى جميعنا ما تكبّدناه وخسرناه، فالعودة إلى البيت والأرض جميلة رغم كل شيء.