خاص- مسيحيّو القرى الحدوديّة في الجنوب: ندفع الثمن.. ونصمد
قسم كبير من المناطق الحدوديّة في الجنوب ليس من بيئة “حزب الله”. لكن الأهالي مضطرّون لدفع ثمن حرب لا يريدونها. وفيما تحاول قرى مسيحية هناك الصمود قدر الإمكان، تعرّضت أخرى للتدمير والتهجير. ويعايش السكّان الخطر، علّهم يحافظون على وجودهم. فهم يريدون العيش بسلام وبحماية الدولة، لا أكثر ولا أقلّ.
هنا كانت علما الشعب. لم يبقَ حجر على حجر في هذه القرية المسيحية الحدودية من قضاء صور. دُمّرت عن بكرة أبيها وأُحرقت بساتينها، كما هو الحال في أغلب القرى الملاصقة للحدود مع إسرائيل. ولكن أهالي هذه القرية الواقعة بين القرى والبلدات الشيعية، لم يشاركوا في قرار شنّ الحرب، إنّما هم مضطرّون لدفع الثمن. هي ليست المرّة الأولى التي تُدكّ منازل هذه القرية ويسقط فيها شهداء، ومنهم المصوّر الصحافي عصام عبد الله ابن بلدة الخيام. وبما أنّ الأهالي ذاقوا اللوعة في حرب 2006، سارعوا إلى الرحيل. فمنذ اليوم الأوّل لاندلاع “حرب المساندة”، كانت علما الشعب، كسواها من المناطق التي تُعرف بقرى الخطّ الحدودي الأوّل، مسرحاً للقصف الإسرائيلي. وفي الأسبوعين الأوّلين من الحرب، دُمّر الحيّ الشرقي فيها، ثمّ لحقته الأحياء الأخرى تباعاً. وأحرقت القذائف ما يقارب 65% من الأراضي الزراعية، التي تشتمل في المقام الأوّل على أشجار الزيتون، فأشجار المانغا والأفوكا التي أُدخلت زراعتها حديثاً، على أساس أنّها تدرّ أرباحاً جيّدة.
علما الشعب هي أحد الأمثلة على ما آلت إليه أوضاع القرى المسيحية على الحدود. ولكن، في المقابل، هناك مثال آخر مختلف. إنّها رميش، البلدة الصامدة في قضاء بنت جبيل. ربّما سمح لها حجمها وعدد سكانها وموقعها ضمن تجمّع لبلدات مسيحيّة بأن تصمد إلى حدّ كبير. فعلى رغم القصف الذي يزنّر أطرافها، ما زال يقيم فيها حوالى 1700 عائلة من أصل 4000. وأصبحت ملجأ لعدد من السكّان النازحين الذين قصدوها من قرى مجاورة. وما زالت المواد الغذائية والمواد الاستهلاكية تصل إليها بمساعدة من قوّات اليونيفيل.
وما بين هذين المثالين، قرى وبلدات كثيرة أخرى، لكلّ منها قصّتها، حيث يحاول الأهالي الحفاظ على حدّ أدنى من وجودهم حيث أمكن، وتحييد أنفسهم عن النزاع، والتمسّك بالدولة والجيش كحامٍ وحيد للبنانيين.
يتألّمون بصمت
وتمتدّ بين الناقورة غرباً إلى جبل الشيخ شرقاً 15 قرية مسيحية، تُعتبر من ضمن الخطّ الأوّل للحدود. أولى هذه القرى غرباً هي علما الشعب المجاورة للناقورة والبيّاضة. وكان يسكنها قبل النزوح حوالى 400 عائلة، يعمل الكثير منهم مع قوّات اليونيفيل منذ أعوام طويلة، ما ساعدهم في تطوير القرية وبناء منازل جديدة وبعض الفنادق. كما أنّها تضمّ مدرستين.
“نحن نتألّم بصمت”، يقول عضو المجلس البلدي في علما الشعب حنّا زعرب لموقع beirut24. “فقد سقط لنا شهداء، ودُمّرت المنازل، وموسم الزيتون الذي كان ينتج 5000 تنكة خسرناه لعامين متتاليين. كما أنّ معصرة القرية دمّرها الإسرائيليون ونشروا صوراً لتدميرها”. وأشار إلى إنّ “النازحين من أهالي علما الشعب لا يقيمون في مراكز إيواء. بل هم يسكنون عند أقارب لهم أو يستأجرون شققاً في بيروت وسواها. وهم يعانون في معيشتهم بعدما فقدوا أعمالهم وأرزاقهم، ولا مساعدات تصلهم، على أساس أن هذه المساعدات تصل فقط إلى مراكز الإيواء. وحتى عندما تدمّرت البيوت في حرب 2006، تمّ التعويض على بلدات كثيرة، فيما أبناء علما الشعب أعادوا الإعمار من جيوبهم، ولا من يسأل عنهم من الدولة أو الأحزاب المسيحية التي لا تفكّر سوى بمصالحها”.
أمّا في القوزح في القطاع الأوسط، فنصب “حزب الله” منصّة استطلاع، ما جعل القرية تتحوّل إلى ساحة قتال، وخلت من سكّانها. وكذلك دُمّرت قرية يارون المختلطة، التي تضمّ أقليّة مسيحية. وتمّ تفجير مسجدها، بعد تدمير الكنيسة التي تحوّلت إلى متراس.
وبين دبل وعين إبل، لم يبقَ سوى رميش صامدة بسكانها الذين انحسروا إلى 1700 عائلة من أصل 4000, وهي تعدّ من أكبر البلدات في المنطقة. كما نزح إليها حوالى 170 عائلة من عين إبل التي فرغت من أهاليها تماماً. ويعتاش قسم كبير من أهالي رميش من زراعة التبغ، التي تؤمّن في العادة مدخولاً سنويّاً يصل إلى 3 ملايين دولار. ولكن المدخول لم يصل هذا العام إلى المليون دولار. كما أنّ قسماً آخر من السكان هم عسكريّون متقاعدون أو معلّمون متقاعدون، ينتظرون معاش التقاعد الهزيل في نهاية كلّ شهر.
في حماية الجيش
أمّا في القطاع الشرقي الذي يشمل قضاءي حاصبيّا ومرجعيون، فوقعت بلدة دير ميماس تحت الاحتلال. وهذه البلدة معروفة بحقول الزيتون، وتنتج سنويّاً ما يوازي 24.000 تنكة زيت، لكنّ الموسم ذهب سدى هذا العام. وبقي عدد قليل من الأهالي في برج الملوك والبويضة، بينما العدد أكبر في كلّ من جديدة مرجعيون، وفي القليعة التي بقي فيها حوالى 600 عائلة. والصورة مشابهة تقريباً في كوكبا وإبل السقي وراشيّا الفخّار، حيث بقيت 20 عائلة فقط مقيمة فيها، وتوقّفت 12 مزرعة دجاج عن العمل، ودمّر عدد منها.
ويقول عضو لجنة المتابعة للبلدات الحدودية الجنوبية الصحافي والكاتب بيار عطاالله لموقعbeirut24 إنّ “وجود الجيش في بعض بلدات القطاع الشرقي أو بالقرب منها، يعطي الأمان للسكّان، خصوصاً أنّ في مرجعيون مركز قيادة للجيش. ولولا التهديد بالقصف، لما كان سكّان عين إبل وقسم كبير من أهالي رميش تركوا بلدتيهم. فمسيحيّو الجنوب لديهم مصادر دخل من العمل الزراعي وتربية الدواجن. كما أنّ عدداً آخر منهم متقاعدون في الجيش أو في القطاع العام والقطاع التعليمي”.
ويتألّف أهالي الجنوب من مجتمع تعدّدي. واستناداً إلى لوائح الشطب، يُعتبر المسيحيّون الطائفة الثانية من حيث العدد، مع 50.000 ناخب، بعد الشيعة الذين يعُدّون 400.000 ناخب، فيما يشكّل السنّة 31.000 ناخب والدروز 17.000.
ويؤكّد عطاالله أن “لا إجماع في الجنوب على قرار الحرب، الذي اتّخذته جهة واحدة، من دون موافقة الطوائف الأخرى. ونحن نعتبر أنفسنا غير معنيين بطريق القدس. ولماذا يُطلب من الفلّاح المسيحي أن ينخرط في الحرب، من دون أن سؤاله إن كان موافقاً على السلاح في الأصل؟.
و قد خرج عبر وسائل التواصل من يشتم المسيحيين ويخوّنهم، بعد دخول قوّات الاحتلال الإسرائيلية إلى دير ميماس، من دون أيّ مقاومة. فهل على المسيحيين أن يحوّلوا بلداتهم إلى ساحات قتال ودمار، بينما الحرب لا تعنيهم، كما يقول عطا الله، الذي يعتبر أنّ “الجيش اللبناني هو الأداة لقتال إسرائيل، وخيارات المسيحيين هي مع الجيش أوّلاً وثانياً وثالثاً”. ويسأل: “ألا يحقّ للمسيحيين في رميش والقليعة وسواهما أن يرفضوا زجّ بلداتهم في الصراع، في حين أنّ الدروز مثلاً اعترضوا في بلدة شويّا في قضاء حاصبيا شاحنة كانت تحمل منصّة اطلاق صواريخ تابعة للحزب، من أجل إبعاد مناطقهم عن الصراع؟”
وفي إطار المساعي لتحييد القرى المسيحية في الجنوب عن الصراع، زار وفد من لجنة المتابعة للبلدات الحدوديّة الجنوبية بكركي والسفارة البابوية، وطالب بتعيين موفد بابوي مقيم في المنطقة، على غرار الموفد البابوي في جزّين سيليستينو بوهيغاز، بهدف تأمين الغطاء للوجود المسيحي. ولكن لا يبدو أن هذا المطلب موضوع على نار حامية.
في أيّ حال، قرار وقف النار صار قريباً. فهل يتمّ إنقاذ ما تبقّى من القرى؟ وهل يعود ابناؤها إليها لمرّة أخيرة، من دون توقّع حرب جديدة كل عقد من الزمن؟