كلمة الحرب والسلم تبقى فقط للميدان ومَن يتألم أكثر: «الحزب» يعيد «الردع» بضرب تل أبيب

كلمة الحرب والسلم تبقى فقط للميدان ومَن يتألم أكثر: «الحزب» يعيد «الردع» بضرب تل أبيب

الكاتب: ايليا ج. مغناير | المصدر: الراي الكويتية
21 تشرين الثاني 2024

ليست المرة الأولى، يضرب «حزب الله» تل أبيب وضواحيها، ولا علاقة لهذا الردّ بمجيء المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكشتاين إلى بيروت لتلقي الردّ بـ «لعم» (نعم ولا) على مقترح وقف النار وأفخاخه.

فهذه العملية «الدقيقة» حَمَلَتْ في طياتها رسائل عدة لجهة تنسيق القيادة وهرميتها، القرار السياسي، دقة الإصابة ونوعية الهدف وفرْض الردع لوقف استهداف المدنيين في بيروت.

وهذه المعايير تضرب الترويج الأميركي – الإسرائيلي بأن الحزب فَقَدَ القدرة على حماية لبنان ولذلك يجب تجريده من السلاح.

لا يستطيع لبنان أن يرفض ولا أن يقبل، من دون تفكيك الملاحظات الملغومة في المسودة الأميركية – الإسرائيلية المتعلّقة بوقف النار، حتى ولو كانت كامل تفاصيلها لا تتناسب مع موقف «حزب الله» لجهة «حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها» و«مراقبة عدم تدفق السلاح إلى جنوب الليطاني من لجنة أميركية – أطلسية» ومنْع إعادة تسليح الحزب من خلال مراقبة الحدود اللبنانية – السورية.

فإسرائيل لم تنتصر لتفرض شروطها من دون نقاش وما زالت قواتها تتعثّر في الجنوب حتى ولو أنها تحارب في مناطق دمرتها في شكل شبه كامل طوال الأشهر الـ 13 الماضية.

وقد عدّلت إسرائيل تشكيل قواتها الهجومية، من انتشارٍ وتقدّمٍ جبهويّ إلى تقدّم اختراقيّ لاحتلال مناطق ومرتفعات حاكمة في العمق اللبناني، وهي تقاتل في محيط بلدتي الخيام وشمع في الحافة الأمامية، بعد تجاوُز خط التأمين الأول في مناطق محدودة.

ورغم التدمير شبه الشامل للقرى الأمامية في المرحلة الأولى من الحرب، يقاتل «حزب الله» ضمن قواعد اشتباك جديدة آخذاً بالاعتبار إفشال أهداف إسرائيل، ليس من ناحية منْع جيشها من دخول الجنوب، بل لمنعه من الاستقرار، وإشغاله أثناء تقدّمه وانهاك القوى الغازية واستنزافها من خلال دفاعٍ متحرك لزرع حالة اللا يقين إذا فكر في البقاء لتحسين شروط التفاوض.

وحتى لو أعلن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أنه «يتفاوض تحت النار»، إلا أن أهدافه تبدو أكثر وضوحاً من خلال تسريبات، بأنه لا يريد وقف الحرب على جبهتي غزة ولبنان في المرحلة الحالية، لأن ذلك من شأنه تعريض حكومته للمساءلة والتفكك.

إلا ان نتنياهو بدأ يفقد الدعم الشعبي حتى ضمن مناصريه – وليس الوسط السياسي وحتى من معارضيه الذين يطلبون منه إكمال الحرب على لبنان – من خلال إحصاءاتٍ تُظْهِر مطالبة «الرأي العام» بوقف الحرب والتفاوض لإطلاق ما تبقى من المحتجزين في غزة وكذلك وقف الحرب على لبنان.

لذلك، بدأت اسرائيل قَصْفَ مواقع داخل العاصمة بيروت من خلال ضرب أهداف علنية لـ«حزب الله»، مثل اغتيال الناطق الرسمي محمد عفيف. وهذا يدلّ على أن الجيش الاسرائيلي لم يعد يملك معلومات عن أي هدف عسكري مهمّ لاغتياله. ويعني أيضاً انه يستطيع استهداف نواب الحزب في البرلمان أو وزراء سابقين أو حاليين، ولكن من دون أن يغيّر ذلك في معادلة الربح أو الخسارة بل جلّ ما يمكن أن يؤدي إليه مثل هذا الأمر هو خدمة سردية «إنجازاتٍ» يتباهى بها نتنياهو أمام المجتمع الإسرائيلي.

ولكن ضرب إسرائيل لهدف مدني في منطقة تجارية في قلب بيروت في شارع مار الياس دَفَعَ الحزب للردّ بالمثل مستهدفاً مبنى في قلب تل أبيب (في شارع بني باراك التجاري) أصيب مباشرةً واندلع حريق فيه وجُرح سبعة مدنيين بعضهم في حال خطرة.

وللضربة معان ورسائل كثيرة باتجاهات مختلفة: لا يمكن ضرب تل أبيب إلا بقرار من القيادة السياسية لـ«حزب الله».

وهذا يعني أن أمينه العام الشيخ نعيم قاسم هو المعني مباشرة بإصدار الأمر بضرْب مركز الثقل لإسرائيل.

وبعد اتخاذ القرار السياسي يُنقل الأمر لقيادة الوحدة الصاروخية ومنها لعناصر التنفيذ المولجين إطلاق هذا النوع الدقيق من الصواريخ. وهذا يعني ان اغتيال إسرائيل للمعاون الجهادي المسؤول عن الوحدات الصاروخية وقائد الوحدة الصاروخية في الصف الأول والثاني تم ترميمه وتعيين آخَرين لإكمال المهمة.

كما أن إصدار هذا الأمر مباشرةً بعد ضربة إسرائيل الجوية لمنطقة زقاق البلاط المدنية (في بيروت) ومن دون ضرْب هدف تابع لـ«حزب الله»، يدلّ على قدرة الحزب على الحفاظ على الانضباط والتنفيذ بدقة في ظل ضغوط عسكرية جوية وهيمنة إسرائيلية مطلقة، وأيضاً على أن آليةَ التشغيل بفعالية على كل المستويات وتنسيق الاتصالات مؤمَّنةٌ من رأس الهرم إلى أدنى المستوى التنفيذي.

وهذا يعني أن الحزب رمّم ليس فقط جميع هذه القيادات ولكن أيضاً وسائل الاتصال السليمة وغير المخترَقة وانه لا يَخشى على مركز إطلاق الصواريخ التي تكشفها الأقمار الاصطناعية والرادارات لتحديد مراكز إطلاقها بدقة متناهية.

ويعلم «حزب الله» ان قدراته الصاروخية لا ترقى لمستوى القدرات الإسرائيلية غير المحدودة. ولذلك فإن إطلاق صاروخ أو خمسة كافٍ لإحداث القلق اللازم داخل المجتمع المدني والقيادة السياسية والعسكرية، خصوصاً بعدما أعلن نتنياهو ان قدرات الحزب دُمرت بنسبة 80 في المئة، إلا أنه لا يزال يتلقى مئات الصواريخ، والمسيَّراتُ تنهمر على إسرائيل يومياً، على جبهات القتال والمراكز العسكرية ليس فقط في مناطق الشمال بل في حيفا وتل أبيب والمناطق المحيطة بهما.

ولا يسعى «حزب الله» لإيجاد التوازن ولا يتعّمد إيقاع قتلى في صفوف المدنيين بالتوازي مع ما تفعله إسرائيل. وهذا ينبع من عدم رغبته بتعريض الكثافة السكانية المدنية اللبنانية خصوصاً المهجرين الذين تدفقوا إلى بيروت من كل المناطق المستهدَفة لانتقامِ جيشٍ أثبت لا أخلاقيته في غزة.

فالحزب تنظيم مقاوم لا يرقى لمستوى الجيش الإسرائيلي بتجهيزاته وأدواته والدعم الدولي والتدفق اللوجستي الذي يصبّ في إسرائيل من أميركا ودول «الناتو». بل هو جيش منظّم غير نظامي يحمل مهمة الدفاع عن بيئته ومنْع احتلال لبنان، ويستطيع مواجهة إسرائيل كما لم تفعل جيوش كثيرة.

وما يحاول نتنياهو كسْره بضرب مناطق عدة توّجها باستباحة بيروت، هو أن يقول ان سرديةَ التنظيم بالدفاع عن لبنان سقطت، وتالياً فإن الأوْلى نزع سلاحه ومراقبة ومنْع طرق إمداده بالسلاح وتحجيم قواته التي بلغت مستوى لا تستطيع الدولة اللبنانية مواجهته، وأن هذا ما حتّم على إسرائيل تَولّي هذه المهمة.

إلا أن تل أبيب قتلتْ منذ بداية الحرب 35 عنصراً من الجيش اللبناني. وتالياً، فإن قواتها تستهدف الجيش الذي تطلب منه السيطرة على الجنوب…

وهذا ما أرادتْ المقاومة إظهاره بصاروخها الدقيق على تل أبيب واستهدافها المنطقة التجارية المدنية، موجّهةً الرسائل المتعددة بأنها هي أيضاً تملك أوراق عدة وتعمل على أساس ان الحرب مستمرة لمدة طويلة وأنها، بما تملك من قوة، هي وحدها التي تستطيع إيلام إسرائيل كما تفعل اليوم، وانها تملك القدرة العسكرية على التفاوض تحت النار ولا تُظْهِر أي ضعف رغم الضربات القوية التي تلقّتها وتعافت منها، لتبقى كلمة الحرب والسلم فقط للميدان ومَن يتألم أكثر.