خاص- بين حرب الحدود وحرب الوجود
“هذه الحرب سوف تستغرق وقتًا سيكون عسيرًا. أيام صعبة تنتظرنا”. بهذه الجملة علق رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو على عملية “طوفان الأقصى” التي انطلقت فجر السابع من تشرين الأول 2023 من غزة باتجاه المستوطنات الإسرائيلية المحاذية للقطاع. وبعد أيام من المعارك عاد نتنياهو ليؤكد أن الحرب طويلة وستستغرق أشهرًا وربما سنوات.
باستثناء قلة تشكل الدولة العميقة في إسرائيل لم يفهم أحد ماذا قصد نتنياهو بسنوات من الحرب في دولة اشتهرت منذ تأسيسها بأن حروبها خاطفة لا تستغرق أكثر من أيام، وفي أقصى الحالات أسابيع. لم يدرك الداخل الإسرائيلي أو الخارج من أصدقاء إسرائيل وأعدائها أن الجيش الإسرائيلي عمل على مدى عقدين أو أكثر على تغيير استراتيجيته القتالية استعدادًا لدخوله في حرب حاسمة ضد ميليشيات محور الممانعة التي اعتقدت بعد حرب تموز 2006 أن إسرائيل لا تستطيع أن تربح أي حرب إذا طالت مدتها، وأتقنت بالتالي فنون حرب الاستنزاف التي تتطلب حكمًا معارك برية.
بعد أكثر من 13 شهرًا من المعارك نجح الجيش الإسرائيلي في احتلال معظم قطاع غزة بعد تدميره وتشريد أهله الذين تعرّضوا لأبشع أنواع المجازر الجماعية. بعد 13 شهرًا نجح نتنياهو في القضاء على حركة “حماس” قيادة وكوادر ما عدا مجموعات صغيرة من “الانتحاريين” تركهم الجيش الإسرائيلي لزوم إبقاء نيران الحرب مشتعلة حتى لا تزدحم تل أبيب بمبعوثين ساعين الى إيجاد حل للوضع والحديث عن اليوم التالي للحرب.
بالمناسبة هل من حديث حاليًا عن مستقبل غزة أو عن مصير “حماس” أو حتى عن مستقبل الفلسطينيين في القطاع؟ إنه صمت القبور.
بالعودة الى لبنان، وتحديدًا الى الثامن من تشرين الأول 2023 عندما أعلن الأمين العام السابق لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله فتح الحرب على إسرائيل إسنادًا لغزة. إسرائيل في حينه لم تكن تريد فتح حربين في غزة ولبنان في الوقت نفسه، وقد ساعدها على ذلك “حزب الله” بإبقائه حربه ضمن ما سمي بقواعد الاشتباك على مدى أشهر طويلة الى أن قرر الجيش الاسرائيلي فتح الحرب على الحزب في عملية “البيجرز” في 17 أيلول الماضي، وما أعقبها من تصعيد متدحرج للعميات العسكرية ضد مواقع الحزب وقياداته.
هل أخطأ “حزب الله” ومعه إيران، أو ربما العكس، في فتح الحرب على إسرائيل؟ وهل أخطأ الطرفان في خوض حرب محدودة على مدى أشهر معطين إسرائيل المهلة المطلوبة لإنهاء حربها في غزة والانتقال الى لبنان؟
بكل أسف، أثبتت الأحداث والتطورات والنتائج بعد عام ونيّف من الحرب أن إيران و”حزب الله” قد أخطآ في القرارين.
واللافت في ما الأمر أنه بعد كل ما ىلت إليه الأمور، يأتيك موفد من هنا ومبعوث من هناك حاملين مقترحات لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و”حزب الله” على قاعدة تطبيق القرار 1701 على حاله أو معدلًا، على أمل العودة بالأمور الى ما قبل السابع من تشرين الأول 2023. إلا أن هؤلاء نسوا أو تناسوا أن الحكومة الإسرائيلية باتت في مكان آخر بعد أكثر من 1 شهرًا من الحرب، وباتت تسعى الى تأمين حدودها الشمالية والجنوبية لمرة واحدة ولفترة غير محدودة. بمعنى آخر، باتت إسرائيل مستعدة لتكون هذه الحرب، مهما طال أمدها وبلغت تكلفتها البشرية والمادية، الحرب الأخيرة لتأمين حدودها قبل إقرار سلام نهائي مع جيرانها ومحيطها.
إنها باختصار حرب حدود بالنسبة للدولة العبرية، حتى لا تكون مضطرة كل عقد أو عقدين للدخول في حروب شمالًا أو جنوبًا أو حتى في الضفة الغربية.
في المقابل، أدرك “حزب الله” منذ “عملية البيجرز” وما أعقبها من تطورات دراماتيكية ضد قادته وقاعدته وبيئته ومناطقه أنه لن يتمكن من الخروج منتصرًا من هذه الحرب، أو حتى ادعاء ذلك، لأن إسرائيل ومعها الولايات المتحدة قد اتخذت قرارًا نهائيًا بوضع حد لحالة “حزب الله” على حدودها، وهي لن تتراجع عن قرارها مهما كلف الأمر. لذلك سعى الحزب الى استدراج اسرائيل في البر ليس لتكبيدها الخسائر والانتصار عليها، بل على أمل أن تحتل بعض القرى الحدودية ولا تنسحب منها، فتعطي بذلك الذريعة للحزب لعدم تسليم سلاحه تحت ذريعة مقاومة الاحتلال.
بالنسبة ل”حزب الله” إنها حرب وجود، لأنه يدرك أنه ما أن يسلم سلاحه للدولة اللبنانية تطبيقًا لاتفاق الطائف والقرارات الدولية، يكون قد أطلق على نفسه رصاصة الرحمة. فـ”حزب الله” ليس حزبًا سياسيًا بالمعنى التقليدي للكلمة وفقًا للمجتمع السياسي اللبناني، ولا هو قادر على التحول من حزب ديني عقائدي عسكري الى حزب سياسي بالمفهوم المتبع في لبنان، ولا بيئته ستكون قادرة على مجاراته في مثل هذا التحوّل، خصوصًا إذا توقف إمداده وبيئته بالأموال الكثيرة المطلوبة في المرحلة المقبلة من إيران.
وبين حرب الحدود وحرب الوجود يبقى الثابت الوحيد أن الميدان هو الفيصل ولو استمرت الحرب أشهرًا أو حتى سنوات، وهي لن تنتهي بالتأكيد إلا بغالب ومغلوب. لذلك يستطيع آموس هوكشتاين أو غيره أن يأتي ويذهب قدر ما يشاء، لكن “حزب الله” لن يتخلى عن سلاحه، أي عن وجوده إلا مرغمًا، كما أن إسرائيل لن تتخلى لمرة أخيرة عن تثبيت الأمن بشكل نهائي ودائم على حدودها.