نصرالله في بنت جبيل
ما زال الأمين العام السابق لـ”حزب الله” حسن نصرالله حاضراً في بيئة “الحزب” بقوة لا نظير لها. ويطل هذا الحضور يومياً في هذه البيئة من دون توقف منذ نجاح إسرائيل في اغتياله في 27 أيلول الماضي في الضاحية الجنوبية لبيروت. وانصرف الجهاز الإعلامي لهذا التنظيم منذ ذلك التاريخ الى استعادة الأرشيف الضخم الذي تضمن مسيرة نصرالله منذ وصوله الى سدة الأمانة قبل 32 عاماً. وكان الهدف ولا يزال لاستعادة هذا الأرشيف، هو تعبئة أعضاء “الحزب” ومناصريه في الحرب التي تشنها إسرائيل حالياً.
في المقابل، يضع إعلام “الحزب” جانباً كل ما له صلة بمرحلة تتصل بالانسحاب الإسرائيلي من الجنوب عام 2000. وفي ذلك العام، وتحديداً في 26 أيار منه كانت لنصرالله كلمة ألقاها في مهرجان مدينة بنت جبيل تحت عنوان “الإنتصار الأول على العدو الصهيوني وإندحاره من الأراضي اللبنانية “. وأورد موقع “المنار” الالكتروني في 24 أيار الماضي لمناسبة مرور 24 عاماً على هذا الحدث، تحقيقاً حمل عنوان: ماذا نتذكّر من تحرير الـ 2000؟”.
وجاء فيه: “سيّد النصر في بنت جبيل ليلقي خطاب الفتح في 26 ايار 2000 في بنت جبيل. وحينها قال الجملة التي لا زلنا نرددها الى اليوم وحفرت عميقاً في كيان العدو “إنّ إسرائيل هذه التي تملك أسلحة نووية وأقوى سلاح جو في المنطقة، والله هي أوهن من بيت العنكبوت!”
بعد 24 عاما تتحضّر بنت جبيل، المدينة الجنوبية الأولى جغرافياً لناحية قربها للحدود مع إسرائيل لمعركة ضارية تلوح فيها معالم عام 2006 عندما شنّت الدولة العبرية حربها ووصفتها بأنها “حرب لبنان الثانية”. وكانت “الحرب الأولى” تلك التي شنتها إسرائيل عام 1982 وادت الى إنهاء وجود المنظمات الفلسطينية المسلّحة في لبنان وعلى رأسها منظمة التحرير الفلسطينية.
وعند إعداد هذا المقال كان المشهد الميداني في بنت جبيل ومحيطها بحسب مصادر “الحزب” على النحو الاتي: “في القطاع الأوسط، تراجعت حدة الاشتباكات بين المقاومين وقوّات العدو على محور عيترون – عيناثا – بنت جبيل، بعد الضربات التي تلقّاها جنود العدو، ولا سيما في مواجهات عيناثا. واستعاض العدو عن فشله الميداني، بتكثيف غاراته وقصفه المدفعي لبلدات قضاء بنت جبيل، مثل الطيري وكونين وبيت ياحون وعيناثا وبرعشيت وحداثا وشقرا وتبنين وعيتا الجبل وحاريص. وحول عيتا الشعب، رُصد تحرّك لآليات العدو قُبالة مثلث القوزح – رامية – بيت ليف، بالتزامن مع غارات مكثّفة استهدفت حانين، وتبدو هذه التحرّكات مفهومة ضمن خطّة التوغل الإسرائيلية باتجاه مدينة بنت جبيل، والتي تعتمد على تأمين المرتفعات المشرفة على المدينة ومحيطها، من حانين إلى الطيري، في حال أراد العدو التقدّم من ناحية عين إبل عند الأطراف الغربية لبنت جبيل”.
قبل 24 عاماً، وقف نصرالله مخاطباً الحشود الذين جاءوا من كل حدب وصوب الى المدينة الجنوبية الحدودية، قال: “التهديد والوعيد الإسرائيلي لا نخاف منه اليوم… هم الخائفون على امتداد هذه الحدود وهذا الشريط. لقد خافوا من بعض النساء والأطفال الذين يقفون على الحاجز الحديدي… يخافون من حجر يرمى عليهم… أنتم الآن هنا في بنت جبيل آمنون سعداء، وهم على امتداد مستعمرات شمال فلسطين المحتلة خائفون ومرتعبون أمام المستقبل المجهول… لقد انتهى الزمن الذي كنا نخاف فيه من التهويل والتهديد الإسرائيلي، وهو يعرف أن الزمن الذي كانت فيه تستبيح طائراته سماءنا قد ولّى، وأن الزمن الذي كانت تستبيح دباباته أرضنا قد ولّى، وأن الزمن الذي كانت تستبيح فيه زوارقه مياهنا الإقليمية قد ولّى، وإنّ أي اعتداء على لبنان لن يقابَل بشكوى إلى مجلس الأمن (من مجلس الأمن هذا؟!) ولا بالدموع… لن يقابَل إلا بالمقاومة… “إسرائيل” إذا اعتدت على لبنان ستدفع أثماناً غالية”.
هل من المعقول أن يستعيد “حزب الله” اليوم من الأرشيف كلمة نصرالله هذه؟ بالتأكيد لا. ولا تقتصر الاستحالة لهذه الاستعادة على واقع بنت جبيل التي تتعرّض للحمم الإسرائيلية فحسب، وإنّما تشمل أيضاً مساحة جغرافية تعادل ثلث لبنان تقريباً. وها هي الضاحية الجنوبية لبيروت التي شكلت معقل نصرالله طوال حياة الأخير كأمين عام لـ”الحزب”، تطل بعد أسابيع من الغارات الإسرائيلية المتلاحقة عليها كتوأم لقطاع غزة. وهناك مدينة صور، عروس البحر الجنوبي تنضم لركب التدمير الذي لم تر له مثيلاً في التاريخ المعاصر. ومثل صور والضاحية الجنوبية، تطل أيضاً بعلبك مدينة الشمس التي كانت قبلة الإمبراطورية الرومانية، كمعلم للتدمير الإسرائيلي في زمن الإمبراطورية الإيرانية الإسلامية.
بالعودة الى ما قاله نصرالله في بنت جبيل قبل 24 عاماً. فهو خاطب وقتذاك رئيس وزراء إسرائيل إيهود باراك قائلا: “اليوم باراك يدعو لبنان إلى اعتبار الانسحاب رسالة سلام! هذا خداع.. هو خرج من دون خيارات …ولن يكون هناك خيارات أمام هذا العدو المهزوم في لبنان”.
ماذا عسى يقول نصرالله اليوم لخليفة باراك حالياً أي بنيامين نتنياهو؟ لا نحتاج الى الخيال للإجابة على هذا السؤال. فقد قارب نصرالله بنفسه هذا الجواب في آخر كلمة له قبل 8 أيام من رحيله. وانطلق نصرالله من واقعة “استهداف العدوّ “الإسرائيلي” لآلاف أجهزة البيجر وتم تفجيرها في وقت واحد” في 17 أيلول الماضي، فخلص الى القول: “نحن ناس واقعيون ولا نُكابر، لا شك أنّنا تعرّضنا لضربة كبيرة أمنياً وإنسانياً وغير مسبوقة في تاريخ المقاومة في لبنان، بالحد الأدنى غير مسبوقة في تاريخ لبنان. هذا المستوى من العدوان وقد يكون غير مسبوق في تاريخ الصراع مع العدوّ “الإسرائيلي” على مستوى كلّ المنطقة”.
تستطيع الآلة الإعلامية لـ”حزب الله” استخدام ما تيسّر من أرشيف نصرالله الضخم. لكنها مجبرة اليوم على تحييد الجزء المتعلق بـ”الانتصارات” المؤسسة لكل مسار “الحزب” منذ العام 2000 . ولا بد من تتبع أحوال بنت جبيل التي أتاحت لنصرالله فرصة وحيدة للتربّع على عرش النصر. لكن هذه الفرصة صارت في غياهب الأرشيف.