“الترانسفير الشيعي” في “المناطق المختلطة” الهاجس الأمنيّ يُعطّل عمليات شراء لقياديين في “الحزب”
قرابة 40 ألف وحدة سكنية دُمّرت في لبنان حتى 16 أيلول الماضي، وفق آخر الإحصاءات غير الرسمية. وإذا كان عدد النازحين يتخطى المليون و200 ألف نازح داخل لبنان، فهذا يعني أن عشرات الآلاف منهم، لا بيوت يعودون إليها بعد انتهاء الحرب. هذه الكارثة التي حلت بهم، إضافة لاستغلال غالبية مالكي الشقق المؤجرة للأزمة، مع كلفة إيجار وصلت إلى 3000 دولار للشقة في بعض المناطق… كلها عوامل دفعت بنازحين “ميسورين” من أصل 900 ألف نازح في الشقق المؤجرة، للإقدام على شراء منازل في مناطق لبنانية “مختلطة”، وكان العشرات من المُقدمين على عمليات الشراء، قياديين في “حزب الله”.
“مطلوب شقق للبيع في ضواحي صيدا والدفع كاش”. هذا إعلان لإحدى شركات العقارات الرائدة في صيدا، يعكس ازدهار سوق عاصمة الجنوب العقاريّة في الحرب، إن لناحية ارتفاع العرض أو الطلب، بعدما باتت خياراً للنازحين الجنوبيين من الطبقة الوسطى، في حين تصدرت بيروت وجوارها عمليات البيع للطبقات الميسورة.
الشراء ليس بهذه السهولة. هناك اعتبارات طائفية مناطقية لناحية الخوف من تغيير ديموغرافي، ويدفع النازحون ثمن أخذ مسؤولين في “حزب الله” المدنيين دروعاً بشرية، حتى في عمليات الشراء. في السياق، يتحدث أصحاب مكاتب عقارية عدة ووسطاء عقاريين لـ”نداء الوطن” عن إجراءات صارمة في البيع، نتج عنها إيقاف عمليات بيع شقق تبيّن أن الشارين فيها مسؤولون في الحزب، وذلك رفضاً لتعريض سكان تلك المباني لاستهداف إسرائيلي محتمل.
فكيف تتوزّع عمليات الشراء للنازحين الميسورين ومتوسطي الحال على الخريطة اللبنانية؟ وهل يتحول جشع أصحاب الشقق المؤجرة، “سحراً” ينقلب على الساحر مع صعوبة استمرارية دفع نازحين بدأت مدخراتهم تنفد، إيجارات الأسابيع وربما الأشهر القادمة إذا استمرت الحرب؟
صيدا وُجهة الشارين “متوسطي” الحال
يقول أحد أبناء مرجعيون ممن فقدوا منازلهم في الحرب “كان معي قرشين، قلت خليني آخد فيهن بيت في صيدا وبقعد مع عيلتي بكرامتي، حاج مشرد بالإيجار وعم بدفع 2000 دولار بالشهر”.
ومثله كثيرون لجأوا للشراء في صيدا، ما جعلها قبلة للنازحين الجنوبيين كونها الأقرب لقراهم، ورفع العرض والطلب على السواء في المدينة.
يبدأ متوسط سعر الشقة من 50 ألف دولار وقد يصل إلى 100 ألف بحسب المنطقة. وكل مناطق صيدا مرغوبة للنازحين، خصوصاً عبرا والهلالية والشرحبيل وبقسطا. أما الزبائن فهم إما ممّن خسروا منازلهم في الجنوب أو ممّن سئموا من دفع مبالغ إيجار طائلة وقرروا استثمار سيولتهم بالشراء.
فضّل سماسرة اختيار التعامل مع المالكين الذين ترضي معاييرهم “الضمير المهني”. أحد هؤلاء السماسرة، أحمد حوراني صاحب مكتب “استثمارات وعقارات في صيدا وضواحيها”، اختصر جشع بعض السماسرة وأصحاب الشقق بعبارة “من التاجر للفاجر لقبّاض الأرواح”، وأعطى مثالاً عن شقة “سوبر دولوكس” في الصالحية – صيدا يقدر إيجارها بـ 900 دولار، تعرض اليوم للإيجار بـ 2000 دولار، فيما شقة أخرى في منطقة شعبية، تحت الأرض، تعاني من الرطوبة والنش، وتعرض للإيجار بمبلغ 700 دولار وهي لا تستحق 300 دولار”.
الأخطر من ذلك، أن بعض المالكين وصلت بهم الحال لطرد نازحين مستأجرين لأنهم غير قادرين على دفع زيادة على الإيجار، ما جعل ناشطين في المدينة يتوسطون لدى بلديات وشخصيات فاعلة في المدينة لعدم طردهم.
عقود إيجار تحفظ حق الطرفين
يرفض السمسار أحمد حوراني العمل مع أصحاب ملك أعماهم الجشع. يقول “علينا أن نرحم الناس في هذا الظرف ونتضامن معهم إنسانياً”. أما من الناحية التجارية، فيرى أن هذا الطمع المستمر “استثمار خاسر” سيرتد على أصحابه، سائلاً “ماذا عن نفاد مدخرات النازحين قريباً؟ وماذا يفعل أصحاب الملك إذا واجهوا حالات عدم دفع إيجار بعد أسابيع؟”.
من هنا لجأ حوراني وعشرات السماسرة الآخرين لحفظ حق المالك لجهة ضمان الدفع، وحفظ حق المستأجر لجهة ضمان عدم ابتزازه بإيجار تصاعديّ. وذلك عبر إجراء عقود إيجار سنوية، بمتوسط 400 دولار للمنزل (يختلف من منطقة إلى منطقة في صيدا) ما يضمن استمرارية الإيجار وحماية حقّ الطرفين.
مسؤولون في الحزب يفشلون بالشراء
حوادث عدّة لاستهداف إسرائيل مباني سكنية بهدف اغتيال مسؤولين في “حزب الله”، سقط بنتيجتها عشرات الضحايا والجرحى، كاستهداف مسؤول وحدة الإرتباط والتنسيق في “الحزب” وفيق صفا، في برج أبو حيدر، واستهداف مبنى سكني في برجا بهدف اغتيال المسؤول في “حزب الله” عبدلله ابراهيم، وهو ما دفع بالمكاتب العقاريّة وأصحاب الشقق إلى اتخاذ سلسلة من الإجراءات، على قاعدة أنهم يريدون البيع لكن لا يريدون “أن يدّعي علينا العالم بعد عملية البيع”.
“نداء الوطن” تواصلت مع عشرات الوسطاء العقاريين من مختلف المناطق اللبنانية، وقد واجه عدد منهم بالفعل محاولة بعض المسؤولين في “الحزب” شراء منازل من دون أن “يفاوضوا” حول المبالغ التي يطلبها المكتب العقاري، وبعضهم أنكر انتماءه لـ”الحزب”، لكن، بالتعاون مع مصادر أمنية، يتم اكتشاف ذلك وإيقاف عمليات البيع تلك.
القدرة الشرائية: 200 ألف وطلوع
على عكس صيدا، لا يشكل شمال لبنان سوقاً جاذبة للنازحين على مستوى عمليات الشراء نظراً لبعد المحافظة عن قراهم، وتقتصر عمليات البيع على نازحين وأفراد لديهم عائلات أو مصالح شمالاً.
أما محافظة بيروت وجوارها، لا سيما بعبدا والحازمية، فيأتي الطلب عليها أولاً من قِبل أهالي الضاحية وحتى الجنوب، وتشكّل محطة جذب أساسيّة، لكنها تبقى غير متاحة إلا للطبقة الميسورة من النازحين، الذين تزيد قدرتهم الشرائية عن 200 ألف دولار وقد تصل إلى 300 ألف دولار أحياناً.
وليد الترك، صاحب “مكتب الترك للعقارات والتعهدات”، يتحدث عن اندفاعة للشراء من قبل النازحين من الضاحية والجنوب، وهي لا تقتصر على من خسروا منازلهم بقصف اسرائيليّ. “فبعضهم لجأ لخطط بديلة أو Plan B على قاعدة أنه بيضل عنا بيت ببيروت إلى جانب بيت الجنوب أو الضاحية في حال عادت مناطقنا لتصبح غير آمنة في المستقبل”.
نحو المناطق “المختلطة” في بيروت
أكثر المناطق طلباً على الشراء في بيروت هي: المزرعة ورأس النبع والمتحف ورأس بيروت، بنسبة 80 في المئة، في حين لا تتعدى النسبة في الأشرفية والحازمية الـ10 في المئة. ويشرح الترك “يفضّل النازحون الشراء في مناطق مختلطة، والمفارقة أن هناك ظاهرة مستجدة في الحرب، تطول 80 في المئة من زبائني وهم من مختلف الطوائف بمن فيهم النازحون الشيعة من الضاحية والجنوب، والسنّة من قرى العرقوب، الذين يفضلون الشراء في أحياء في العاصمة غير ذي طابع سياسي”.
بشامون تجذب الشارين
الخوف الديموغرافي يتجلّى في الجبل على عكس بقية المناطق اللبنانية، بدأت الإيجارات تنخفض في جبل لبنان، وتحديداً في عاليه وبحمدون وصوفر، حيث ينزح مواطنون إلى مناطق أكثر انخفاضاً، فيما يسجل نزوح حديث من البقاع والهرمل.
صحيح أن الجبل برمته استقبل نازحين مستأجرين لكن عمليات البيع صعبة جداً في مناطق ذات أغلبية درزية أو مسيحية، كبيصور وعاليه وبسوس ووادي شحرور وبليبل وسوق الغرب حيث يغلب هاجس الخشية من التغيير الديموغرافي، وتغذيه ضوابط البلديات وتوصيات مراجع دينية وحزبية.
في المقابل، سجلت عمليات بيع في مناطق مختلطة طائفياً، حيث لا ضوابط حزبية صارمة. في السياق، يوضح الوسيط العقاريّ ساري العريضي، أن عمليات البيع للنازحين “تتركّز في مناطق مختلطة أو متنوعة بانتماءاتها السياسيّة، وفي طليعتها بشامون، حيث تتراوح أسعار الشقق بين 60 إلى 100 ألف دولار، وتأتي بعدها مناطق كعيناب وعبيه وكفرمتى”.
ويلفت العريضي إلى ظاهرة في الجبل على مستوى استغلال السماسرة للإيجارات. يقول “هناك طفرة سماسرة مستجدين وبعضهم من النازحين من الطائفة الشيعية، والمفارقة أن هؤلاء “لا يرحمون أهلهم النازحين، ويعرضون شققاً للإيجار بمبالغ خيالية طالبين تأمين شهر كامل، في حين أن سماسرة كثر يكتفون بنسبة 10% وبعضهم لا يأخذ شيئا تضامناً مع النازحين”.
الخطيب: طفرة البيع كذبة!
في الضاحية، كثرت عمليات البيع منذ عام تقريباً، لا سيما في حيّ الأميركان. أما سوقها العقارية اليوم فمتوقفة بالكامل مع اشتداد الضربات الإسرائيلية عليها ومحو معالم أحياء بأكملها. في المقابل، عدد لا يستهان به من المالكين جمّد عمليات البيع في شتى المناطق اللبنانية، مع توقع غلاء أسعار العقارات بعد الحرب.
في السياق، الخبير العقاري، ومدير عام شركة Century 21 Lebanon العقارية، أحمد الخطيب، يلفت إلى أن السوق العقارية “جامدة” في مناطق و”نشطة” في مناطق أخرى.
وعن حالات البيع بداعي الحرب والهلع يوضح أنّها “محدودة جداً” وغالبية حالات البيع القسري اليوم، هي إما لأجانب يبيعون أملاكهم خشية تعرضها للقصف، أو للبنانيين اتخذوا قراراً نهائيا بالهجرة.
السوق “بتظبّط حالها”
وعلى عكس أصحاب الشقق الذين يتوقعون ارتفاعاً جنونياً في الأسعار بعد الحرب، يرى الخطيب أن الارتفاع يترافق مع تنمية وبنى تحتية من كهرباء ومياه وخدمات تقدمها الدولة، وهي حالة لا تنطبق على لبنان، حيث بات علينا إعادة فلسفة مفهوم الدولة.
وعن معايير التأجير والبيع اليوم يعيب الخطيب “انتقاء المستأجرين وفق “المظاهر”، كتفضيل تأجير عائلة نازحة “sport” ورفض تأجير عائلة نازحة فيها إمرأة محجبة”، معتبراً أن هذه المعايير تخالف مفهوم المواطنة. “فكل الطوائف في لبنان تعرضت للتهجير وعلينا ضمان عدم انكسار الطائفة الشيعية، والارتقاء إلى مستوى الأزمة الوطنية سيما وأن ارتداداتها تطال جميع اللبنانيين”.
أما على صعيد الإيجارات، فيحذر الخطيب من “انقلاب السحر على الساحر”، فالتأجير وفق معيار الطمع “سيرتدّ على أصحابه، الذين لم يفكروا بأوضاع النازحين الذين خسروا أعمالهم وكلما طالت الحرب كلما نفدت أموالهم وزادت احتمالية تخلفهم عن الدفع”.
وماذا عن توقعات الخطيب بعد انتهاء الحرب؟ يجيب “لا أخاف على السوق، إنها تصحح حالها بحالِها”، متوقعاً عودة الشقق لقيمتها التأجيرية الحقيقية، إذ “لن يتوانى النازحون سيما في الظروف المادية الصعبة التي يواجهونها، بعدما خسروا أعمالهم وفي ظل الأزمة الاقتصادية اللبنانية، عن افتراش الخيم، في انتظار إعادة الإعمار، وهو ما يُبدد مخاوف المستأجرين من غير النازحين، من أن تطالهم نيران الإيجارات الملتهبة”.
ترانسفير “شيعي” داخلي
في وقت يُخشى فيه من “ترانسفير” للشيعة خارج لبنان، خصوصاً إلى العراق، الذي تخطى النازحون إليه 20 ألف نازح، فإن “الترانسفير الداخلي” بدأ يتحول من “الإيجار” لـ”التملك” لا سيما في صيدا وبشامون وبيروت، بنسب محدودة لا يقوى عليها إلا المحظيون، فيما عشرات الآلاف من النازحين المعطلة أعمالهم والذين استنفدت مدخراتهم، يخشون تحول نزوحهم إلى “ترانسفير” في الشارع مع امتلاء مراكز الإيواء، وبعض هؤلاء ممن خسروا منازلهم، مهددون بعدم القدرة على استئجار بيوت تأويهم، طيلة فترة إعادة الإعمار. |