ترامب يجهّز صفقة التسوية
تصاعدت حماوة الحرب الدائرة بين إسرائيل و»حزب الله»، وسجّلت مستويات جديدة. فمن جهة طورت إسرائيل من أسلوب غاراتها الجوية، وأعلنت عن تقدّم برّي جديد في الجنوب. وفي المقابل رفع «حزب الله» من نوعية صواريخه وأهدافه لتصل إلى وزارة الدفاع الإسرائيلية. وهذا ما دفع إلى التساؤل عمّا إذا كان ما يحصل يدخل في إطار مرحلة جديدة من الحرب، أم أنّها حماوة في إطار التفاوض تحت ضغط النار؟
فعلى الضفة الأميركية، تابع الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب الإعلان عن تعييناته للمواقع المهمّة في إدارته. والصفة الغالبة والمشتركة لرجال هذه الإدارة كانت أنّهم من الصقور والمتشدّدين، إلى درجة بدا فيها ترامب بينهم وكأنّه من الحمائم. وطاقم الصقور هذا يشمل كل جوانب الملفات الأميركية المطروحة، بدءاً من المهاجرين غير الشرعيين، وحيث ستجري أكبر عملية ترحيل جماعي في التاريخ الأميركي، ومروراً بضبط الحدود مع المكسيك، ومن ثم اتباع سلوك جديد ومتشدّد مع منظمة الأمم المتحدة، وكذلك ملف حلف «الناتو» والتعاطي الجديد مع الأوروبيين، وكذلك العلاقة مع الصين، وأخيرًا وليس آخراً ملف الشرق الأوسط. ومن المفترض أن يستكمل ترامب تعييناته على الوتيرة نفسها، أي طاقم صلب ومتشدّد، وهو ما قد يشمل سفارتي موسكو وبكين. ذلك أنّ هاتين السفارتين، إضافة الى ممثلية الأمم المتحدة تُعتبر من أهم المواقع الديبلوماسية والتي يعمل كل رئيس على إجراء تعيينات فيها لموالين له فور انتخابه. أما السفارات الأخرى فتبقى على حالها ووفق النظام العادي لوزارة الخارجية، بغض النظر عن اللون السياسي لطاقمها. فمثلاً ورغم طغيان اللون «الديموقراطي» على طاقم سفارة عوكر، إلّا أنّ أي تعديل فيها لن يحصل إلّا وفق البرنامج المتبع داخل وزارة الخارجية.
إلّا أنّ اللافت في تعيينات ترامب هو تعيينه مبكراً لمبعوثه الخاص إلى الشرق الأوسط وهو ستيفن ويتكوف اليهودي والمستثمر العقاري والمتمول، والذي يرفع شعار: «القوة وحدها تمنع الحروب». وإسراع ترامب في الإعلان عن اختيار مبعوثه إلى الشرق الأوسط يدل إلى مسألتين: الأولى، وتهدف لإبراز النمط أو السلوك الذي ينوي ترامب اتباعه في المنطقة، وسط وجود رأي جارف داخل الفريق المحيط به، والداعي الى إطلاق يد نتنياهو. والثانية، الإشارة إلى أنّه باشر تحركه تجاه الحرب الدائرة، ولو أنّه لا يزال في المرحلة الإنتقالية قبل دخوله رسمياً إلى المكتب البيضاوي. وهذه الخطوة تؤشر إلى أنّ مستشار جو بايدن آموس هوكشتاين أصبح ملزماً بالتنسيق الكامل مع ويتكوف، وإلاّ أصبحت من دون فائدة. وهو ما قد يكون هَدَف إليه ترامب وسط ما يُحكى عن ورقة تسوية يعمل هوكشتاين على تحقيقها.
وانسجاماً مع القاعدة التي تقول إنّ الماضي هو مرآة المستقبل، فإنّ عودة إلى ولاية ترامب الأولى تُظهر أنّها شهدت قرارات سياسية كبيرة عدة لمصلحة إسرائيل، كمثل نقل السفارة إلى القدس والاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان، والإعلان أنّ إسرائيل ليست قوة احتلال في الضفة الغربية، وهو ما يدفع إلى الإعتقاد بأن يعترف ترامب في ولايته الثانية بضمّ الضفة الى إسرائيل، وكذلك انسحاب ترامب من الإتفاق النووي وإغلاق البعثة الفلسطينية في واشنطن.
ووفق كل ما تقدّم فإنّه لا بدّ من توقّع سياسة أميركية ضاغطة فور دخول ترامب إلى المكتب البيضاوي. وبالتالي لا بدّ أيضاً من توقّع سعي ترامب الى «فرض» تسوية سياسية تكرّس معادلة شرق أوسطية جديدة، ولكن بعد إطالة أمد الحرب لأسابيع أو ربما لأشهر إضافية، قد تمتد حتى شباط المقبل.
وقد لا يكون السبب الوحيد لذلك السعي لإفساح المجال أمام إسرائيل لتحقيق نقاط ميدانية (إذا نجحت بذلك) وبهدف تعزيز موقعها التفاوضي، بل أيضاً لتأمين الظروف الإقليمية والدولية المؤثرة وإنضاجها، لإنجاح ولادة تسوية تقف على أرض صلبة وثابتة. وهنا بيت القصيد.
فخلال الأيام الماضية زار وزير الشؤون الإستراتيجية الاسرائيلية رون دريمر، والمعروف عنه بأنّه كاتم أسرار نتنياهو، واشنطن، حيث اجتمع بترامب بعدما كان زار موسكو. لكن ما لم يتناوله الإعلام، حصول زيارة لوفد عسكري إسرائيلي لموسكو منذ نحو ثلاثة أسابيع، حيث عقد اجتماعات مع وزارة الدفاع الروسية والأجهزة الأمنية واختتمها بلقاء مع بوغدانوف. وتردّد يومها على نطاق ضيّق، أنّ الوفد بحث في ملف الحرب الدائرة وأيضاً طلب المساعدة الروسية في ملف إطلاق الأسرى لدى حركة «حماس». وإثر ذلك، وتحديداً في 24 تشرين الاول، زار وفد عسكري روسي إسرائيل بعيداً من الإعلام ليزور من بعدها دريمر موسكو.
ولا حاجة إلى التذكير بأنّ العلاقات الروسية ـ الإسرائيلية هي في أفضل حالاتها منذ التدخّل العسكري الروسي في سوريا عام 2015، باستثناء برودة محدودة بسبب موقف إسرائيل من حرب أوكرانيا. وعدا ذلك فإنّ روسيا تتعامل مع إسرائيل كدولة صديقة. وتردّد أنّ إسرائيل طالبت بدور روسي في عملية ضبط الحدود اللبنانية ـ السورية، والتوسط في ملف الرهائن مع حركة «حماس»، في مقابل أن توظف إسرائيل موقعها لدى ترامب لخفض العقوبات المفروضة على روسيا، والتي أرهقت الإقتصاد الروسي. والمعلوم أنّ عدد العقوبات الغربية ضدّ روسيا منذ قرارها بضمّ القرم عام 2014 يقارب 21 ألف عقوبة، وهو رقم هائل.
ووفق أوساط ديبلوماسية مطلعة، فإنّ موسكو والتي تعرف جيداً أنّ العرض المقدّم لها يوسّع من دائرة نفوذها في الشرق الأوسط، تدرك أيضاً أنّها تشكّل خشبة خلاص إلزامية لواشنطن وتل أبيب، لتعديل موازين القوى الميدانية القائمة الآن، وتكريس معادلة جديدة. وبالتالي فإنّ موسكو تبدي تمهلاً في درس جوابها، والذي يشارك فيه عدد من الدوائر العسكرية والأمنية والديبلوماسية. فالفرصة تبدو ذهبية لإنجاز تسوية كاملة تشمل أوكرانيا أيضاً.
ففيما تسعى إسرائيل إلى تكريس انتصار كامل وليس جزئياً، ويهدف إلى القضاء على القدرة العسكرية لـ«حزب الله»، فإنّ واشنطن تسعى في الوقت نفسه إلى إنهاء كل أشكال الإرتباط والتواصل بين طهران من جهة، وسوريا ولبنان من جهة أخرى. لذلك فإنّ لموسكو لائحة مطالب لا بدّ من دفع واشنطن إلى تحقيقها في إطار صفقة شاملة «وعادلة» وفق النقاط الآتية:
ـ شطب عدد من العقوبات الأساسية المفروضة على موسكو والتي تؤذي اقتصادها.
ـ إنهاء الحرب الدائرة في أوكرانيا وفق تسوية تأخذ بالمصالح الروسية، كمثل الإعتراف بضمّ المناطق التي استولى عليها الجيش الروسي.
ـ إعادة فتح الأسواق الأوروبية أمام الغاز الروسي. صحيح أنّ موسكو وجدت بدائل عن السوق الأوروبي في الصين ودول شرق آسيا، لكن تبقى إغراءات السوق الأوروبية أكبر وتحمل في طياتها نكهة سياسية.
ويدرك الكرملين أنّ لعبة الوقت باتت لمصلحته. وتردّد أنّ الجواب الروسي الفوري كان أن موسكو لا تريد أن تتخاصم مع طهران، وهو ما يجعل مهمّتها عند الحدود السورية ـ اللبنانية مهمّة صعبة جداً. واستتبعت روسيا جوابها بإضافة سريعة: لكن ضمن تسوية شاملة وواسعة، فكل شيء يصبح وارداً.
وقد تكون التسوية الشاملة التي تتحدث عنها موسكو تتضمن إدخال طهران فيها من خلال ترتيب ملفها النووي، وبالتالي إزالة العقوبات عنها ومن ثم الإفراج عن أرصدتها المجمّدة. ووفق ما أوحى به ترامب، فهو قد لا يمانع باتفاق نووي جديد مع طهران، شرط أن تفكّ ارتباطها كلياً مع «أذرعها» في المنطقة، وخصوصاً في لبنان وسوريا. وفي وقت تبدي الديبلوماسية الإيرانية تمسّكها بعلاقتها الإستراتيجية مع موسكو «رغم وجود علامات استفهام كثيرة حول سلوك روسيا في سوريا، ومنعها إيران من استخدام دفاعاتها الجوية». وهو ما يوحي أنّ الصفقة الكبرى التي يطمح اليها ترامب في المنطقة ستحتاج أولاً إلى ضغوط الحدّ الأقصى إقتصادياً مع إيران وأيضاً فتح ملف أوكرانيا مع أوروبا. واستتباعاً فإنّ الذهاب في اتجاه الخطوات التنفيذية لإنضاج بنود التسوية العريضة سيحتاج إلى بدء ممارسة إدارة ترامب لمهماتها رسمياً.
ما يعني أنّ الحرب ستبقى مشتعلة حتى شباط المقبل. وسيسعى كل طرف في هذه الأثناء الى تحقيق مكاسب ميدانية لتعزيز أوراقه التفاوضية وموقعه السياسي، مع الإشارة إلى الغارات التي نفّذتها الطائرات الأميركية على مواقع لحلفاء إيران في سوريا، والتي حملت رسائل جديدة من أنّ واشنطن لن تتردّد في التدخّل ولو عسكرياً، وهي لن تتساهل في حال تعرّض قواتها للخطر.
وفي هذا الوقت، لفتت زيارة المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية لإيران، حيث لفت قوله إنّ مساحة المناورة تضيق أمام طهران. وفي الوقت نفسه كان الرئيس الإيراني يقول بما يشبه الإنعكاس لنقاش داخلي صاخب بأنّه «شئنا أم أبينا سيتعين علينا التعامل مع واشنطن على الساحتين الإقليمية والدولية، لذا من الأفضل أن ندير هذه العلاقة بأنفسنا».
ولكن وسط كل ذلك سيبقى الميدان اللبناني مشتعلاً وربما بحماوة أعلى.