إيران و”الحزب”: العمى الإستراتيجي
كل الأخبار المتداولة عن قرب إنجاز صفقة لإنهاء حرب لبنان انطلاقا من وقف النار ومباشرة تطبيق القرار ١٧٠١ غير صحيحة. فطالما أن رياح المسرح العسكري في الجنوب وفي سماء لبنان معاكسة لـ”الحزب”، لن يتوقف إطلاق النار، وستواصل إسرائيل عمليتها العسكرية ما دامت تتمتع بنافذة زمنية أميركية تصل إلى ما يقارب السبعين يوما. أي إلى حين تسلم الرئيس المنتخب دونالد ترامب صلاحياته التنفيذية في ٢٠ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢٥.
قبل هذا الموعد تتمتع إسرائيل بهامش لمواصلة تغيير الواقع في لبنان. وعلى الرغم من كل ما يحكى من جهة إيران أو الحزب أو المؤيدين له، فإن الإنجازات التكتيكية التي يحققها مقاتلو الحزب على الأرض في الجنوب لناحية إظهار مقاومة شرسة في مواجهة الجيش الإسرائيلي، مثل تفخيخ مبنى في الجنوب أدى تفجيره إلى قتل ٧ جنود إسرائيليين، لا ترقى إلى مستوى الإنجازات التي يمكن أن تقلل حجم الانقلاب الكبير في الأشهر الثلاثة الأخيرة، والذي بدأ بعد عودة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من واشنطن بثلاثة أيام، أي في ٣٠ تموز (يوليو) الفائت الذي شهد اغتيال القائد العسكري الأعلى رتبة في “الحزب” فؤاد شكر، ثم توالت الضربات الإسرائيلية الإستراتيجية من ١٧ إلى ٢٧ أيلول (سبتمبر)، من تفجير آلات “البيجر” إلى اغتيال الأمين العام للحزب السيد نصرالله.
وفي ما بعد، أطلقت تل أبيب عملية “سهام الشمال” التي قلبت كل المشهد. ولا تزال العملية في مرحلتها الثانية التي ستستمر بحسب المعطيات المتوافرة إلى حين تدمير خط الدفاع الثاني في الجبهة الجنوبية، توازيا مع مواصلة تدمير الحواضر السكانية الخاصة بالبيئة الحاضنة للحزب، واغتيال المزيد من المنتسبين إليه والعاملين معه من الصفين الثالث والرابع في كل الميادين العسكرية والأمنية والمالية واللوجيستية.
بهذا المعنى، يمكن القول إن النافذة الزمنية التي يستغلها الإسرائيلي الآن ستحمل معها مزيدا من التدمير المنهجي في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لمدينة بيروت، فضلا عن اغتيالات مصحوبة بخسائر بشرية مدنية متواصلة.
لكن الأخطر هو الانشطار الوطني الكبير بين البيئات اللبنانية و”الحزب”، في وقت بدأت ملامح الافتراق المتدرج تظهر بين الحزب وجزء من البيئة الشيعية التي ترى الواقع بعين مختلفة عن الحزب وإيران. وكانت واضحة مواقف رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، إن على مستوى الخطاب الذي يدلي به منذ نحو شهر بالنسبة إلى السلاح الشرعي وضرورة أن يحصر بالجيش اللبناني، أو موقفه من الإيرانيين منذ أن هاجم تصريحات رئيس مجلس الشورى الإيراني التي أبدى فيها استعداد طهران للتفاوض مع باريس من أجل وقف النار في لبنان.
ولقد بدت البرودة جليّة بين ميقاتي والوفد الإيراني في قمة الرياض الأخيرة، حيث لم يلتق أي مسؤول إيراني. كل ما تقدم يشير إلى أن المستوى السياسي اللبناني الذي تماهى مع “الحزب” منذ ٨ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٣، وأمّن له تغطية رسمية لمغامرته الكارثية، انتقل اليوم إلى موقع مختلف. ولن نستغرب إذا بدأنا نسمع بصوت خافت مواقف مسربة من بيئة حركة “أمل” تبدي فيها تبرمها مما آلت إليه مغامرة الحزب. فالخطب جلل، وقد فشل الحزب فشلا ذريعا في حساباته ورهاناته، وفشلت معه إيران المعرضة أكثر من أي وقت مضى لضربة إسرائيلية- أميركية قاتلة لبرنامجها النووي ومهددة لاستقرار النظام فيها.