موسكو استدعت الأسد سرّاً وطهران على باب روسيا والسعودية..
لمناسبة تحريك الوكالة الدولية للطاقة الذرّية ملفّ إيران النووي، هل يجري جسّ النبض حول إحياء التفاوض الأميركي معها؟ رئيس الوكالة رافائيل غروسي سيزور طهران غداً الأربعاء لبحث رفضها عودة المفتّشين الدوليين إلى منشآتها النووية ومدى تخصيبها اليورانيوم. كانت القيادة الإيرانية أجّلت زيارة كان ينوي القيام بها في أيلول الماضي.
اللافت أنّ توقيت توجيه طهران الدعوة إليه لزيارتها قبل أيام، جاء بعد انتخاب الرئيس دونالد ترامب. استنتج مراقبون أنّ طهران تمهّد لمفاوضة الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب عبر الوكالة، والتفاوض يشمل حتماً تمدّدها الإقليمي.
المطلوب أن تقتنع طهران بأنّ عليها أن تضع حدّاً لجموحها. حتى حليفتها روسيا تسعى إلى حصر أضرار تنطّحها لاستخدام الساحات العربية في المواجهة مع الغرب، تحديداً في سوريا.
تفيد مصادر ثقة لـ”أساس” أنّ القيادة الروسية رتّبت فور فوز ترامب زيارة سرّية للرئيس السوري بشار الأسد لموسكو، من أجل الطلب إليه بحزم وقف تسهيل أجهزة النظام تهريب الأسلحة الإيرانية إلى الحزب في لبنان. على ذمّة المصادر، فقد سبق لموسكو أن حذّرت الأسد من ازدواجية موقفه بالنأي بسوريا عن الحرب منذ 7 أكتوبر 2023، وبمواصلة تغطية تكديس السلاح في بلاد الشام ونقله إلى الحزب. من جهتها تواصل إسرائيل قصف المواقع الإيرانية على الأراضي السورية، وتأخذ على موسكو عدم إيفائها بالتزامها ضبط الدور الإيراني. والأخيرة ترى أنّ الأسد يناور في وعوده. وهذا ما يفسّر التسريبات التي أعقبت الزيارة السرّية التي قام بها وزير الشؤون الاستراتيجية في حكومة إسرائيل رون ديرمر لموسكو. أشارت هذه التسريبات إلى أنّه بحث في دور روسيّ في اتفاق محتمل لوقف النار. إذ إنّ تل أبيب تسعى إلى ضمانات، منها وقف تسليح الحزب عبر الحدود، في حال سحب قوّاته من جنوب نهر الليطاني.
تضارب المواقف الإيرانيّة
يتوقّف أكثر من دبلوماسي عربي عند التضارب في مواقف طهران حيال جهود إنهاء الحرب في لبنان، وفي العلاقة مع الإدارة الأميركية. تارة يعلن مرشد الثورة علي خامنئي أنّ “الجهاد المستمرّ بقوّة في لبنان وغزة سيؤدّي إلى انتصار جبهة المقاومة وجبهة الحقّ”. وتارة أخرى يتحدّث عن “التراجع التكتيكي”. تقود الدبلوماسية الإيرانية حملة واسعة لدعوة الدول إلى الضغط على الولايات المتحدة الأميركية من أجل وقف النار في لبنان وفي غزة. وفي الوقت نفسه تدعو إلى دعم المقاومة. ينعكس ذلك التناقض في مواقف الحزب. الأمين العامّ الجديد الشيخ نعيم قاسم يفوّض رئيس البرلمان نبيه بري التفاوض على وقف الحرب، ثمّ يتوعّد بمواصلة القتال لهزيمة إسرائيل، ويدعو جمهوره إلى الصمود والصبر.
طهران تطلب “الاحترام” من ترامب؟
إثر فوز ترامب بالرئاسة تمهّل المسؤولون الإيرانيون في ردّة فعلهم. غلبت على مواقفهم المفارقات، بين المكابرة والليونة. رئيس مجلس الشورى محمد باقر قاليباف قال الأحد الفائت: “لا يوجد فرق في الطريقة العدائية للأشخاص الذين يتمّ انتخابهم رئيساً للولايات المتحدة الأميركية”. ورأى أنّ “مجيء وذهاب رؤساء الدول الأخرى لن يكون له أيّ تأثير على قدرة بلادنا في تأمين مصالحها بالشكل الذي نراه مناسباً، ما دمنا نعتمد على القوّة الداخلية والفكر والإرادة الإيرانيَّة”.
بالمقابل كان وزير الخارجية عباس عراقتشي اغتنم مناسبة إحياء مرور 40 يوماً على اغتيال السيّد حسن نصرالله، يوم السبت من أجل نفي الاتّهامات لبلاده بأنّها تقف خلف مؤامرة اغتيال الرئيس المنتخب. ووصف السيناريو الذي كُتِب بأنّه “ملهاة من الدرجة الثالثة”. بعث عراقتشي برسائل تهدئة إلى “الشيطان الأكبر” الأميركي. أكّد أنّ “الشعب الأميركي اتّخذ قراره وإيران تحترم حقّه بانتخاب الرئيس الذي يختاره. والتقدّم إلى الأمام خيار أيضاً، ويبدأ بالاحترام”. وإذ شدّد على أنّ “إيران لا تسعى إلى صنع أسلحة نووية”، رأى أنّ بناء “الثقة حاجة للفريقين، وليس طريقاً في اتّجاه واحد”.
اختلاف اللهجة بين قاليباف وعراقتشي طرح سؤالاً حول أيّ توجّه ستسلكه القيادة الإيرانية حيال التحوّل في الإدارة الأميركية؟
تجاهل عروض طهران للحوار
توقّف العارفون ببعض خفايا الأسابيع القليلة الماضية أمام حديث عراقتشي عن “الاحترام”. ولذلك خلفيّات يروي هؤلاء بعض وقائعها كالآتي:
– خلال مشاركته في أعمال الجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك التي انتقل إليها في 22 أيلول، أطلق الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان الدعوة إلى الحوار مع واشنطن. أبدى استعداداً للبحث في إحياء اتفاق عام 2015 حول ضوابط برنامج طهران النووي. سبق هذا الكلام حديث بزشكيان عن أنّ الأميركيين “إخوتنا”، وهو ما أثار عاصفة من الانتقادات له من المحافظين في البرلمان الإيراني.
– أطلق فريق بزشكيان من هناك إشارات إلى عدم رغبته في المزيد من التصعيد في المنطقة بسبب حرب غزة ولبنان. نائب بزشكيان للشؤون الاستراتيجية محمد جواد ظريف أطلق إشارات واضحة في هذا الصدد. إذ علّق على تعرّض 4 آلاف من كوادر الحزب لتفجير البيجر واللاسلكي واغتيال قائده العسكري إبراهيم عقيل بنفي نيّة طهران التورّط في الحرب دفاعاً عن الحزب. أوضح أنّ بلاده درّبته وسلّحته بحيث يمكنه الدفاع عن نفسه. كان ذلك إشارة عمليّة إلى ضبطها الحزب.
– كان الجانب الإيراني يأمل أن تُفتح له أبواب التفاوض من قبل الدول الغربية وأميركا. راهن على أن تؤدّي ليونته، ولجمه التصعيد على الجبهة اللبنانية، إلى بدء حوار أميركي معه لرسم مسارٍ يؤدّي إلى رفع العقوبات.
– لم يحصل أيّ تجاوب أميركي مع الليونة التي أظهرها المسؤولون الإيرانيون. شعر الكبرياء الفارسي بالازدراء. الضرر الذي تسبّبت به حالة الإنكار والعنجهية اللذين حكما التمادي باستخدام الأذرع، كان كبيراً.
من اليمن إلى العراق وسوريا ولبنان وحتى غزة، رمت بفصائل الممانعة والشعوب التي احتضنتها في أتون نيران لا تنطفئ. وعندما حان وقت استثمار أدوارها في العلاقة مع الدول الكبرى، فضّلت الأخيرة ترويض طهران قبل التفاوض معها. بل إنّ المسؤولين الإيرانيين تعرّضوا لصفعة اغتيال نصرالله في 27 أيلول أثناء محاولاتهم إغواء الجانب الأميركي بالحوار من نيويورك. ويردّد البعض أنّ بعض القادة الإيرانيين توقّفوا بمرارة شديدة أمام امتناع العديد من الدول حتى عن التعزية عنه.
طهران لم تكن تعلم: خطأ الحسابات
– لم تكن طهران على علم بأنّ نصرالله، قبل اغتياله، أعطى موافقته على وقف النار في الجنوب بمعزل عن غزة. حليف الحزب الرئيس نبيه بري أبلغ الوسيط الأميركي آموس هوكستين باسم الحزب بذلك.
– كرّس برّي تلك الموافقة في البيان الثلاثي الذي صدر عنه بالاشتراك مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي والرئيس السابق للحزب التقدّمي الاشتراكي وليد جنبلاط، بالترحيب بالنداء الأميركي الفرنسي الذي وقّعت عليه مجموعة الدول السبع والاتحاد الأوروبي والسعودية والإمارات وقطر (في 25 أيلول). كان نصرالله وصل إلى قناعة، بعد الضربات التي تلقّاها الحزب، بالحاجة إلى الليونة، أي التخلّي عن شرط وقف النار في غزة لوقف حرب الإسناد في جنوب لبنان.
– بعد اغتيال نصرالله وإطلاق إسرائيل حملتها العسكرية ضدّ لبنان، في 30 أيلول، ظهر واضحاً خطأ حسابات طهران القائمة على أنّ إسرائيل لن توسّع الحرب. استندت حساباتها إلى أنّ تأكيدها لواشنطن بأنّها لا تريد توسيع الحرب ستقابله الأخيرة بثني نتنياهو عن فتح جبهة الجنوب. ولمست قدرة واشنطن على فرض مكابح على إسرائيل من خلال “تنظيمها” لحدود الضربات المتبادلة مع إسرائيل. لكنّ إدارة جو بايدن رأت في نجاح الضربات الإسرائيلية ضدّ الحزب فرصة لاستكمال إضعاف أذرع إيران.
الإدارة المباشرة للحزب والميدان
لم تكن القيادة الإيرانية تنتظر هذا القدر من الصدّ لمبادرتها الداعية إلى الحوار مع واشنطن. كانت تأمل تجاوباً من إدارة بايدن، لكنّ الأخيرة تجاهلت هذه المبادرة كلّياً. وبناء على هذه الخيبة اتّجهت نحو تصليب الموقف مشحوناً بمنطق المكابرة والاعتداد بالنفس.
قرّرت، بعد اغتيال نصرالله، العودة لمنطق الثورة، بإدارة قيادة الحزب في شكل مباشر للردّ على الصفعات التي تلقّتها من واشنطن ونتنياهو. القيادة المباشرة شملت الميدان والتوجّه السياسي. انعكس ذلك في المواقف المتشدّدة للأمين العامّ الجديد الشيخ نعيم قاسم، الذي عاد إلى اشتراط وقف النار قبل البحث في أيّ اقتراحات لتنفيذ القرار 1701. لم تأبه للخسائر الهائلة لمواصلة الحرب في وقت أخذت التساؤلات تتسلّل إلى بعض صفوف الممانعة حول الجدوى. ومع أنّها سبق أن وعدت الحزب بأنّها ستتكفّل بإعادة إعمار ما هدّمته الآلة العسكرية الإسرائيلية، فإنّ التبرّم ممّا حصده المدنيون يتوسّع.
الأهمّ أنّ طهران لم تدرك أنّ هناك قراراً غربياً بإضعاف دور المجموعات المسلّحة الموازية لمؤسّسات الدولة المركزية، لا سيما في الإقليم. باتت دول الغرب ترى أنّ نموّ الميليشيات (non state actors) في عدد من الدول بات يؤثّر على نفوذها وخططها، حتى لو كان بعيداً جغرافيّاً عنها. ويتيح لها احتفاظها بدورها نسج ارتباطات خارجية، فتؤثّر في الخريطة الجيوسياسية في شكل مفاجئ. وثمّة من يعتقد أنّ دولاً كبرى مثل الصين وروسيا ليست بعيدة عن القناعة بوجوب إنهاء دور هذا النوع من الميليشيات، فستتضرّر منه في يوم ما. وموسكو تحتكّ بها في سوريا.
المراجعة وتكييف السّياسات؟
صحّ ذلك أم لم يصحّ، وسواء نجحت الدول الغربية في هذا التوجّه أم لا، بات حتمياً أنّ إيران أمام تحدّي مراجعة سياساتها الإقليمية. فهذه السياسات سهّلت لإسرائيل اندفاعتها العسكرية. إذ إنّ التعبئة الأيديولوجية والخطاب الغيبيّ اللذين غرقت فيهما تغلّبا على القدر من العقلانية الذي يتميّز به النمط الفكري الإيراني. وتفترض تلك المراجعة أنّها مقبلة على تكييف سياساتها لتفادي مزيد من الخسائر.
تقول أوساط إعلامية إنّ طهران بدأت اتصالات مع فريق ترامب قبل انتخابه، تحت غطاء التشدّد في الميدان، تفادياً لافتتاح الأخير عهده بمزيد من العقوبات. وتنظر أوساط عربية إلى تكيّفها مع حاجة العراق إلى ضبط الميليشيات الموالية لطهران بغطاء من المرجع آية الله علي السيستاني على أنّه تسليم بالمساكنة مع النفوذ الأميركي. ويأمل بعض المراقبين أن تساهم روسيا (في سوريا) والدول العربية، خصوصاً المملكة العربية السعودية، بحكم العلاقة الجديدة مع طهران، أن تساعد في نزولها عن الشجرة.