ترامب عن إيران ولبنان: كلام ممنوع من النّشر
قبل 72 ساعة من فتح صناديق الاقتراع في أميركا، مرّ ترامب مرور الكرام في ذلك المطعم في ديربورن، في الضاحية الجنوبية لمدينة ديترويت. وقف موزّعاً ابتساماته وإبهاماته المرفوعة. سئل عن لبنان والمسلمين والعرب. فأجاب ببلاغة استثنائية العمق والإسهاب: “نحبّهم”، قبل أن يضيف الأهمّ: “نريد أصواتهم”.
قبل أسبوع من تلك الخطبة العصماء، نُشرت رسالة كُتبت له موجّهة إلى اللبنانيين. العمق الفلسفي نفسه. والرؤية المتبلورة بشمول كامل، بفعل وفاعل وحرفين اثنين لا غير: I Will fix it.
قبل أطروحته اللبنانية هذه بأسبوع سابق، كان ترامب في عشاء أكبر لقاء كاثوليكي في أميركا، عشاء آل سميث السنوي. هناك التقى عرباً آخرين، ولبنانيين آخرين، حيث قيل كلام آخر عن لبنان ومن فيه، من بيروت حتى طهران. كلام قيل إنّه ممنوع من النشر!
يدرك نظام الملالي ذلك. ويدركون أنّ ما ينتظرهم يتخطّى مجاملات الانتخابات وخطابات الرئيس الجديد الأحاديّة الكلمات. ما ينتظرهم يعود إلى سنة ونيّف مضت وأكثر. ويذهب بعيداً للسنوات المقبلة.
بعد أربعة أيام على طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023، كانت منطقة الشرق الأوسط برمّتها على حافة كارثة كبرى. ذات صباح في واشنطن، كانت الحرب الشاملة مسألة ثوانٍ وكبسة زرّ.
في 11 من ذلك الشهر الخريفيّ، جمع بايدن إدارته كاملة. خطّ الهاتف في مكتبه مفتوح على مكبّر الصوت. في الطرف الآخر من المكالمة، وحش مجروح بأكثر من سيف ونصل وخنجر، اسمه بنيامين نتنياهو. حوله أركان حربه. وهو يُبلغ صديقه جو أنّه قرّر الهجوم على لبنان، وأنّه خلال دقائق سيعطي أوامره باجتياحه، مستبقاً هجوماً من الحزب عليه، كما باتت تؤكّد كامل معطيات أجهزته. حتى إنّه أعطى تفاصيل عن طائرات شراعية تتأهّب للتسلّل من جنوب لبنان، وصواريخ وتوغّل.
بُحّ صوت بايدن أكثر ممّا هو مبحوح، محاولاً إقناع “بيبي” بخطأ معطياته. بلا جدوى. اتُّخذ القرار. قال له صراحة إنّه لن يدعمه في حربه على لبنان، ولن يكون معه أحد، وسيكون وحيداً منبوذاً دوليّاً. لم يتراجع الوحش.
فجأة وصلت رسالة سرّية إلى مكتب أحد أركان البيت الأبيض. ركض متلقّيها ذهاباً وإياباً لاهثاً بين المبنى التنفيذي والجناح الغربي، ليبشّر رئيسه مغتبطاً. إنّها برقية سرّية وصلت عبر قناة الاتّصال النروجية الموثوقة، تنقل رسالة حاسمة من طهران: “لا نريد حرباً في المنطقة. لن نشجّع أو نشارك في أيّ حرب”.
تماماً على طريقة أفلام التشويق الهوليووديّة، حيث البطل أمام قنبلة موقوتة، وساعة عدّ تنازلي قبل الانفجار، هكذا نقل بايدن الرسالة الإيرانية إلى نتنياهو، فأوقف الأخير إشارة الحرب. وتنفّس أهل واشنطن وطهران عميقاً. فيما انقطع نفس “بيبي”، وظلّ لبنان وغزّة قيد الاختناق.
هذه الوقائع التي يرويها الكاتب الصحافي المخضرم، بوب وودوورد، في كتابه الأخير، “حرب”، تلخّص حقيقة الموقف الإيراني مذّاك.
الملالي كانوا يدركون منذ سنة ونيّف أنّ بايدن ملاذهم، وأنّ ترامب مهلكهم. حاولوا كلّ شيء لمساعدة الأوّل وتجنّب كأس الثاني. تماماً كما فعل نتنياهو العكس، تماماً.
أولويّة المهاجرين… والطّبيعة الإنسانيّة
يعرف خبراء واشنطن في طهران أنّ الناخب الأميركي العاديّ البسيط، هذا الذي تصوّره أفلام ساشا بارون كوهين، عبر ترحال شخصيّة المهاجر بورات في جوف أميركا العميقة، هذا الناخب غير مهتمّ بهم ولا بنظامهم ولا بأذرعهم.
وكانوا يتوقّعون أن يذهب إلى صناديق الاقتراع مدفوعاً بعاملين اثنين لا غير:
- أوّلاً، رقم المهاجرين غير الشرعيين الذين تسلّلوا إلى بلادهم، خلال ولاية بايدن – هاريس. عشرة ملايين شخص. عشرة ملايين فم جائع ينافسونهم على لقمتهم. في اقتصاد بلغ دينه أكثر من 35 تريليون دولار. عشرة ملايين عرف ترامب كيف يصوّرهم عشرة ملايين عدوّ يجتاحون بيوتهم وأعمالهم وأراضيهم ووطنهم.
- ثانياً، مسألة الطبيعة الإنسانية. أن يكون الذكر ذكراً والأنثى أنثى. بالولادة وحتى النهاية. في بلاد تبدأ صباحات صفوف مدارسها، بتحيّة العلم الذي يوحّدها تحت اسم الربّ. وتكمل ساعات نهاراتها وهي تلامس أوراقاً نقدية، مصدّرة بعبارة “بالربّ نثق”.
في النهاية، أميركا العميقة كشعب، دولة مؤمنة جدّاً. فيما أميركا العميقة كنخب تعيش في زمان آخر، بل في أمكنة أخرى. بدت معزولة في خارطة نتائج الانتخابات الأخيرة بين الساحلين وبعض جزر العصرنة المفرطة لا غير.
3 صدمات أصابت العقل السّياسيّ الأميركيّ
يعرف أهل طهران ذلك. ويعرفون أنّ مشكلتهم عميقة مع الأميركيّتين العميقتين. بل إنّ صراعهم مع واشنطن الترامبيّة قد يتحوّل إلى قتال مجالدين حتى الموت.
وهو ما حاولوا تجنّبه منذ 7 أكتوبر 2023 وحتى الأمس القريب. فمنذ اللحظة الأولى التي تلت ذاك الطوفان، أدرك الملالي أنّ ثلاث صدمات قد أصابت العقل السياسي الأميركي:
- صدمة أن تكون إسرائيل في لحظة خطر وجودي. وهذا يعني ما يعنيه للوجدان الأميركي، خاصة وجدان المؤيّدين لترامب. فهو الرجل الذي طوّب الجولان من عنديّاته لإسرائيل. ونقل سفارة بلاده إلى أورشليم القدس. وطوّع النبي إبراهيم شخصياً، راعياً لاتفاقياتٍ تفتح إسرائيل على محيطها. ولم ينفكّ يعلن صراحة كلاماً يتخطّى اعتبارات الانتخابات من نوع:
– “سأجعل إسرائيل عظيمة ثانية”.
– “أنا أفضل صديق ليهود أميركا في البيت الأبيض مذ كان، وأنا حاميهم والمدافع عنهم”.
– “7 أكتوبر إحدى أكثر ساعات البشرية قتامة. إنّه هجوم على الإنسانية جمعاء. إنّه احتفال بربريّ وتلذّذ شيطانيّ”.
– “على إسرائيل أن تنتصر في هذه الحرب. مهما حصل يجب أن تنتصر فيها. وأن تنتصر بسرعة”.
أميركا شعرت بخطر وجوديّ
- صدمة أن يشعر الوجدان الأميركي العميق، ودائماً نتيجة 7 أكتوبر، بأنّ وطنه هو أيضاً في خطر وجودي، مماثل للخطر على إسرائيل. وهو ما تبلور وتفاقم طوال سنة ونيّف من ذلك الطوفان نتيجة الاستخدام السيّئ والمسيء والكارثي من قبل بعض مجموعات الإسلام السياسي لظاهرة التعاطف مع فلسطين.
بشكل أرعن وأحمق شوّه هؤلاء قدسيّة فلسطين وقضيّتها. إذ لم يلبثوا أن حوّلوها إلى ظاهرة حرب دينية، لا ضدّ الكيان الصهيوني وحسب، بل أيضاً ضدّ الوطن الأميركي برموزه القومية وطقوسه وشعاراته، عبر إحراق الأعلام الأميركية وتشويه المباني الرسمية والنصب التاريخية، وغيرها من عوارض حقد دفين ضدّ أميركا على أرضها.
زاد ذلك رعونةً وحماقةً انكشافُ دخول جهات معادية تقليدياً للمفاهيم الأميركية التقليدية على خطّ تلك الموجة، مثل تمويل مؤسّسات جورج سوروس لتلك المجموعات والظواهر. وهو ما تركته حملة ترامب يتفاعل ويتمادى مراهنةً على استثمار غضبه المعتمل في جغرافيا أميركا الداخلية، وهذا ما كان وما حصل.
7 أكتوبر تهديد استراتيجيّ لأميركا
- صدمة أن يبدو طوفان 7 أكتوبر تهديداً استراتيجيّاً لأميركا المصالح الدولية والرؤية الشاملة لنظام عالمي جديد.
إذ لم تكن بالنسبة للمؤسّسة الأميركية السياسية مصادفة بريئة أن يُشنّ ذاك الهجوم بعد شهر ناقص يومين على الإعلان عن المشروع الضخم لكوريدور التجارة العالمية من الهند إلى أوروبا عبر الخليج العربي وإسرائيل. وهو الخطّ الذي يقفل الطرق والسبل على كلّ الخطوط الأخرى المطروحة صينيّاً وروسيّاً.
أن يأتي الهجوم نفسه بعد أسبوعين ويومين على إعلان وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عن التقدّم الحاسم في مفاوضات بلاده مع واشنطن على اتفاق ثنائي استراتيجي، من ضمنه معادلةُ فلسطين مقابل تطبيع عربي مع إسرائيل.
هكذا صار الوجدان السياسي الأميركي مدركاً أنّ ملالي طهران لم يعودوا يكتفون بلعبهم المحليّة، ولا بوكلائهم الإقليميين، بل تكوّن انطباع لدى مؤسّسات القرار الأميركي بأنّ “فائض القوّة” الإيرانية في محورها وهلالها تحوّل هو أيضاً إلى “فائض جنون وجهل” لثوابت السياسة العالمية وموازين قواها، حتى توهّم الملالي أنّهم قادرون على اللعب في دوري أقطاب العالم والكوكب. وهو ما أضاء في واشنطن كلّ أجهزة الإنذار والاستنفار حيالهم بل ضدّهم. وهو ما حاول الإيرانيون تلافي تدهوره أكثر بوصول ترامب، ففشلوا حيث نجح نتنياهو.
إضرب النّوويّ أوّلاً…
الآن ها هم وجهاً لوجه أمام الرجل الذي قرّر ذات صباح تصفية قاسم سليماني، وهو يتابع بورصة نيويورك. فيما بدا معاونوه مذهولين من قراره ومتهيّبين تداعياته.
هو الرجل الذي وقف أمام الكاميرا لاحقاً، متهكّماً ساخراً كيف استأذنه الملالي عبر سويسرا، لحفظ ماء وجههم، بردٍّ شكليّ على قاعدة أميركية في العراق.
هو الرجل، الذي حين سُئل عن كيفية تعاطيه مع النووي الإيراني إذا تدهورت الأمور، أجاب بكلمات قليلة، كما كلّ تفكيره: “إضرب النوويّ أوّلاً، ثمّ دعِ القلق حول نتائج ذلك لوقت لاحق”!
أسوأ ما في كلّ ما سبق المعلومات المتداولة عن أنّ الملالي مدركون لكلّ ما سبق أيضاً.
ولكلّ ما سبق أيضاً وأيضاً، قرّروا المواجهة من لبنان وفيه وعليه حصراً.
وهو ما يدركه فريق عمل ترامب. لذلك وجّه رسائله العديدة إلى اللبنانيين بأن لا تخافوا، سأدفع عنكم توحّش نتنياهو، ثمّ أرفع عنكم تغوّل الملالي.
هل ينجح؟
آخر محاولة أميركية مماثلة قبل 20 عاماً بالتمام، انتهت إلى لائحة طويلة حيّة غير منسيّة من الاغتيالات. تلتها حرب إسرائيلية مدمّرة. أعقبتها ميني حرب أهليّة.
معطيات كثيرة وجذرية تغيّرت خلال 20 عاماً. فلننتظر ولنشهد مجدّداً، بما ومن بقي!