رادار- عندما تتحوّل الأسماء أرقامًا
بينما كان أبو علي مارًا أمام منزل صديقه مهدي وجد سيارة التاكسي الخاصة بصديقه متوقفة أمام المنزل في وقت اعتاد أن يكون في عمله. تفاجأ بالأمر ودخل الى المنزل ليستطلع أحوال صديقه وسؤاله عن سبب وجوده في المنزل في وقت العمل.
وقبل أن يقرع ابو علي باب المنزل استقبله صوت فيروز العذب مرنّما:
أسامينا، شو تعبوا أهالينا
تَ لاقوها، وشو افْتَكَروا فِينا
الأسامي كلام .. شو خَصّ الكلام
عينينا هِنِّي أسامينا.
ما ان دخل ابو علي حتى بادر لتوجيه سيل من الأسئلة لصديقه: ما بالك يا صديقي؟ لم أنت في البيت في هذا الوقت؟ لم غيّرت عادتك بمتابعة الأخبار متنقلًا بين محطة وأخرى، ملتجئًا الى صفاء فيروز في زمن القصف والغارات؟ ما الذي حصل وغيّرك من حال الى حال؟
امتشق مهدي سيجارة سيدرز طويلة، أشعلها، ثم استوى جالسًا قبل أن يجيب صديقه: لا تخف يا صديقي، لم يحدث لي شيء باستثناء القرف من الحال التي بلغناها. كنت أتابع الأخبار فأفهم ما يجري. كنت أتمعّن في اسم كل شهيد وعائلته ومسقط رأسه ومكان استشهاده، فأحزن مع ذويه على استشهاده، وأحيانًا كنت أتابع مراسم تشييعه وكلمات ذويه في وداعه فأحس بأنني أعرف هذا البطل أو ربما ثمة ما يربطني به.
وما الذي تغيّر؟
ما تغيّر يا صديقي أن الأسماء تحوّلت منذ فترة غير قصيرة الى أرقام، فتأتيك نشرات الأخبار خالية من أسماء الشهداء وصورهم وبيانات نعيهم، ومكتفية بإعطاء أعداد الشهداء الذين سقطوا في غارة هنا وعملية هناك. ألهذه الدرجة رخصت الشهادة في بلدنا؟ ألا يدرك المعنيون أن الإسم يشكل الهوية العائلية والاجتماعية لهذا الشهيد، وأن عينيه في صورته الأخيرة هو كل ما يتبقى لذويه ومحبيه حين يعودون بالذاكرة الى مرحلة من العمر قضوها معه؟
وتابع: اسم الشهيد هو كل ما يتبقى له على شاهد القبر. أما نظرة عينيه فهي ذكراه في قلوب أهله ومحبيه، وقد حُرم الشهيد وأهله من الإثنين. فهل من ظلم أكثر؟
وختم مهدي مخاطبًا صديقه: ثم يحدثونك عن انتصارات. انتصار بقادة شهداء لا يُسمَح بانتشال جثامينهم من تحت الأنقاض، وإذا سُمح بذلك لا يُسمح بتشييعهم. انتصار بشهداء يتم تجميع أشلائهم لإكرامهم بدفنهم ليس بالضرورة في مسقط رأسهم الى جانب أحبائهم.
شهداء بلا جثامين.. شهداء بلا أسماء.. شهداء بلا بيانات نعي وصور شخصية.. شهداء بلا تشييع.. ويحدثونك عن الانتصار!