«كولونيالية» أميركية أوسطية بعضلات إسرائيلية
أصبحت المجازر الإسرائيلية في لبنان أخباراً عادية تتناقلها وسائل الإعلام، بعدما اعتاد المواطنون على هذا النهج الذي تتبعه إسرائيل في غياب اي رقيب او حسيب أممي ودولي وعربي. وإذا كانت وحدة الساحات سبباً رئيساً لما يواجهه لبنان وسوريا واليمن وغزة والعراق من حين إلى آخر، فإنّ عزلة الساحات وابتعادها لن يحملا السلام والهدوء إلى الدول السائرة في هذا الخيار.
ففي عصر العولمة والقرية الكونية، والصواريخ العابرة للقارات، والأسلحة النووية، وتلك الفتّاكة، والألياف البصرية، لم يعد ممكناًّ النأي مئة في المئة عن المؤثرات والتداعيات التي تتخطّى مناطق النزاعات المحصورة إلى ما جاورها وأبعد. وإذا قرأنا في دلالات الحرب على غزة، ومن ثم لبنان، نجد أنّ هذه الحرب، وإن توقفت، ستبقى مفتوحة في ظل استحالة الحسم الذي يسعى إليه أفرقاء النزاع. وقد دلّت أحداث الماضي بدءاً من حرب السنتين (1975-1976) على قاعدة غالب ومغلوب على أرض الميدان وتسوية سياسية منقوصة، في ظل العجز عن فرض الوثيقة الدستورية، أنّ الحرب عادت بأشكال شتى وأبشع. وفي العام 1982 لم يفرز الاحتلال الإسرائيلي الثاني الذي أسقط بيروت العاصمة في قبضته حلاً، بل أفرز واقعاً سياسياً ودستورياً جديداً، واتفاقاً للسلام مع الدولة العبرية عُرف باتفاق 17 أيار 1983، ومهّد لثأر عسكري ـ سياسي قاد الأفرقاء إلى مؤتمري جنيف ولوزان وتشكيل حكومة «موزاييك» كان يعوزها التجانس في غالب الأحيان. وكانت «حرب التحرير» وما تلاها من حروب، قد أدّت إلى اتفاق الطائف الذي لم تنفّذ بنوده كاملة حتى اليوم للحكم على فشله ونجاحه. وإذا كان فعلاً قد «خدم عسكريته» ويحتاج إلى تغيير او تعديل أم لا؟
وفي حمأة التحولات الكبرى في المنطقة مع هبوب رياح «الربيع العربي» بـ«وصفة» باراك أوباما، ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، والحرب على سوريا، وسقوط نظام معمر القذاقي، وقبله حكم زين العابدين بن علي في تونس، والهبّة «الإخوانية» في مصر التي أُجهضت في المهد، يمكن القول أنّ أحداً في الداخل لا يمكن أن يحقق تحولاً نحو الأسوأ او الأفضل بملء إرادته الوطنية، ولا أن يفرض حلّه بعقلية الغالب كما كان يحصل سابقاً، ولو لاقى مساندة خارجية. وبالتالي، فإنّ منطقة الشرق الاوسط وبعض دول إفريقيا الشمالية، أضحت ساحة بركانية دائمة التفجّر والاشتعال. اي انّ ما يجري فيها يعكس عمق الاحتقان الدولي ـ الإقليمي الذي يبحث عن متنفس. فهل من مخرج من الحلقة الجهنمية التي تشدّ على خناق المنطقة؟
الأفق مسدود
حتى الساعة، لا توجد مؤشرات إلى حلول جادة تلوح في الأفق. وحده الميدان يرسم بالنار والدمار معالم خريطة الطريق المستقبلية، لا في لبنان فحسب، بل في المنطقة العربية بأسرها، لأنّ اللعبة بالغة التعقيد لوجود أفرقاء إقلميين مجاورين للمنطقة ولديهم حساباتهم، ومخاوفهم ومصالحهم الاستراتيجية، ويتقدّم هؤلاء تركيا وإيران، ولن يقبلوا بأن يكونوا مجرد «شاهد ما شافش حاجة». فإذا كان نفوذ طهران واسعاً في كل من لبنان وسوريا والعراق واليمن، فإنّ لأنقرة حضورها الميداني القوي في الشمال السوري ويدها «طايلة» في شمال بلاد الرافدين. وإنّ غياب التضامن العربي، يجعل الأمن القومي لبلدان الجامعة العربية في مرمى الخطر، مما يحمل كل دولة على التفتيش عن مصادر حماية خارج مدارها الجغرافي ورابطتها القومية، الأمر الذي رسّخ حضور الخارج في مشهديتها الجيو- سياسية، ولو احياناً على حساب مصالحها الوطنية وعلاقات حسن الجوار مع آلاخرين. من هنا، فإنّ الظن أنّ الانتخابات الرئاسية الاميركية ستحمل «الترياق» الشافي والمنقذ من الحال التي ترسو فيها المنطقة وخصوصاً لبنان، ليس في محله. بل سيتعيّن على المراهنين على تأثير هذه الانتخابات سلباً أو إيجاباً ألانتظار.
ولا ينكر أحد أنّ للولايات المتحدة اليد الطولى في المنطقة من خلال الأنظمة الموالية لها، وقواعدها، وأساطيلها الحربية التي تسرح وتمرح في طول المتوسط وعرضه من دون معارضة او اعتراض، ومن دون إغفال دور العصا الغليظة و«المدببة» التي تضطلع بها إسرائيل في خدمة استراتيجية واشنطن والخدمة السريعة التي توفرها القواعد البريطانية في المنطقة، وهي أمست فعلاً تحت أمرة الاميركيين. لكن في المقابل، هناك روسيا التي تراقب بحذر عبر قاعدتها البحرية على الساحل السوري، منفذها الوحيد حالياً على المياه الدافئة التي كانت على مدى التاريخ حلم قياصرتها، والقيادات السوفياتية المتعاقبة من بعد، وهي لن تتخلّى عن مصالحها بالسهولة التي يتوقع البعض، وأنّ دورها الاعتراضي لا الصدامي سيتعاظم إذا ما تمكنت من حسم الحرب الاوكرانية لمصلحتها. وبالتالي، فإنّ الضبابية ستلف المشهد الإقليمي ومن ضمنه لبنان الذي يتلقّى الضربات الإسرائيلية التي يمكن إدراجها في خانة القصف للقصف والتدمير للتدمير بشغف سادي غير مسبوق أنى تكن الذرائع. ومن هنا يمكن القول إنّ آلافاق لا تزال مستغلقة أمام الحلول، طالما أنّ إسرائيل متمادية في اعتداءاتها، وطالما أنّ «حزب الله» يقاومها وينازلها على ارض الجنوب ويمطر مستعمراتها الشمالية بصواريخه.
صراع الطريقين
من الواضح أنّ التوترات في المنطقة والحروب الدائرة فيها ليست منفصلة عن الصراع الدولي حول: طريق الحرير، وما تحشد له الصين وروسيا وإيران من ورائها من محاور ودول من جهة، وطريق البهارات ومحركه الولايات المتحدة الأميركية ومن ورائها أوروبا والهند وبعض الدول العربية التي تعمل على إيجاد الموانئ البديلة عن الممرات المائية التي تشكّل خطراً على اساطيلها التجارية وتلحق الضرر بالموانئ الإسرائيلية. وصراع الطريقين في احتدامه الصاخب او تجلياته «الناعمة» انسحب على تايوان ومنطقة بحر الصين، واستنفر الكوريتين الجنوبية والشمالية، وبلغ تخوم الفيليبين. إنّ كل ذلك يعني أنّ المنطقة، ولبنان فيها الحلقة الأضعف، هي في عين العاصفة اشتدت او انكفأت، وهي ستخرج منها بندوب سياسية واقتصادية وأمنية، ستكون لها انعكاسات في منتهى السلبية في داخل البلدان المشمولة رغماً عنها او بإرادتها في هذا الصراع.
لبنان والخيارات المتاحة
هناك من يلقي اللوم على حكومة تصريف الاعمال، ويعتبر انّها لم تكن في مستوى الكارثة التي حلّت بلبنان سياسياً واجتماعياً، وحتى عسكرياً وأمنياً، ولكن الواقع يتكلم عن نفسه. فالحكومة بما لديها من أوراق استنفدت كل طاقاتها، وقدّمت كل ما يمكن تقديمه، وهي كانت ولا تزال على تنسيق مع رئيس المجلس النيابي نبيه بري، ووافقت على وقف النار وتنفيذ القرار الرقم 1701، لكن الرفض جاء من الجانب الإسرائيلي، في حين أنّ مهمّة المبعوث الأميركي الخاص آموس هوكشتاين باءت بالفشل، وسط عدم رغبة واضحة لدى إدارة الرئيس جو بايدن في لجم الاعتداءات الإسرائيلية التي فاقت الوصف بهمجيتها. وحدها فرنسا حاولت، ووقع بينها وبين إسرائيل تشابك سياسي، وعلى رغم من بعض التدابير التي اتخذها الرئيس ايمانويل ماكرون في شأن السلاح الفرنسي إلى تل ابيب، فإنّ جموح بنيامين نتنياهو ازداد شراسة وعطشه إلى التدمير التام فاق اي تصور.
إذاً، ما الذي يتعيّن على لبنان فعله؟ الجواب أنّ الحرب على لبنان لم تنته، ولا يبدو أنّها ستنتهي قريباً، طالما إسرائيل تعتدي و»حزب الله» يقاومها، مع اتساع المجازر والخراب. وليس على لبنان إلّا الترقّب والانتظار، وقبل اي شيء مواكبة التطورات. ولكن الشيء الأهم هو محاذرة الوقوع في شراك من يريد إدخال لبنان في «تنور» الفتنة الأهلية، لأنّها تقضي على ما تبقّى لديه من روح، وتحقق أمنية إسرائيل والساعين إلى تفكيك وحدته بالنفخ في نار الطائفية والمذهبية، وهذا ما حذّرت منه باريس على لسان أحد كبار مسؤوليها. وكذلك التنبّه لما يُبث من شائعات وأخبار ويُحاك من دسائس. وحتى الساعة، فإنّ الأفرقاء الفاعلين والمؤثرين في الساحة المحلية يتحمّلون مسؤولياتهم، على رغم من التباين الذي يحكم قراءتهم لهذه المرحلة. وعندما يحين أوان الحل، فإنّ لبنان سيكون مدعواً إلى مائدته، ولو أنّ لا خيار له إلّا تذوق الطبق الذي أُعّد له. «الكولونيالية» أميركية بعضلات إسرائيلية – لا شك أنّ منطقة الشرق الاوسط باتت في عصرنا الحالي في قبضة «كولونيالية» أميركية بأشكال وادوات شتى تؤدي فيها إسرائيل دور «البطل» في خدمة نفسها ومن أسند اليها هذا الدور.