النازحون بقاعاً ينشدون الأمان في أحضان خصومهم في السياسة
لا ضربة كف
يكاد تجمع نازحي منطقة بعلبك في دير الأحمر والقاع، وهي قرى تنتمي سياسياً بغالبيتها للقوات اللبنانية، يوازي مجمل عدد النازحين الذين وجدوا أيضاً بيئة إجتماعية آمنة لهم، في زحلة وقضائها حيث تتنوع الإنتماءات الحزبية والطائفية، وحتى الفاكهة وعرسال وغيرها من القرى السنية البقاعية. وعلى رغم التفاوت الكبير في الخلفيات السياسية بين الضيوف والمضيفين، لم تسجل في منطقة البقاع ضربة كف واحدة، مع استثناءات طفيفة جداً بالنسبة لوقوع إشكاليات موضعية حلت في أرضها. وهذا ما يمكن اعتباره مؤشراً ثابتاً على أن الحرب في لبنان كما السلم، هما قرار يتخذ على مستوى القيادات السياسية ويمكنها أن تعممه على قواعدها الشعبية. أما قرار احتضان خصوم السياسة، فيحصن بروح التضامن المترسخة لدى اللبنانيين على المستوى الشعبي، ولكن أيضاً بالوعي الذي أظهره النازحون أنفسهم في إبعاد تجمعاتهم عن خطر الأشخاص الذين قد يكونوا مستهدفين. فبرز التقبل للآخر في معظم المجتمعات، بشرط ألا تستغل إنسانية المجتمعات الحاضنة كحصان طروادة يتيح للعدوان ذرائع الإنتقام منها.
البيئة الآمنة
يتحدث نائب بعلبك الهرمل أنطوان حبشي عن أسباب عديدة جعلت النازحين يختارون دير الأحمر كبيئة آمنة لهم من الإستهدافات الإسرائيلية. ويلفت الى أن السبب الموضوعي الأبرز هو قربها من المحيط المستهدف. ولكنه يربط ذلك أيضاً بالعلاقة التاريخية التي تجمع أهالي المحافظة على مستويي الأعمال والزراعة خصوصا، وطبعاً بسبب الإنطباعات السائدة بأن هذه المنطقة خارج خارطة الأهداف التي وضعتها إسرائيل، حتى ولو نجا النازحون إليها بأعجوبة، إثر تطاير صواريخ حزب الله من مخازنه التي إستهدفت في منطقة بوداي.
النموذج الذي يبرز في شرق لبنان بين محافظتي البقاع وبعلبك- الهرمل، يبدو لافتاً على المستويين الاجتماعي والسياسي معاً. فتنوع الخيارات الذي يتجسد في هذه المنطقة، يؤمن أرضية خصبة لتصفية كل الحسابات، القريبة منها أو البعيدة. خصوصاً في ظل وجود مآخذ على حزب الله الذي خسر بخوضه المعارك الى جانب النظام السوري، البيئة السنية التي كانت من أشد المتحمسين لمقاومته الجنوبية خلال حرب تموز 2006، ولم يوفر فرصة لإسقاط منافسيه المسيحيين في الانتخابات النيابية الأخيرة سنة 2022، فأهمل تسعة مقاعد مضمونة له في دائرة بعلبك الهرمل، ليركز معركته على المقعد الماروني وعلى حجبه عن القوات اللبنانية وبالتالي نائبها أنطوان حبشي.
إقامة لائقة للنازحين
ومع ذلك تبرز الحركة التي يبذلها حبشي في “تأمين إقامة تليق بكرامات النازحين، الذين لجأوا الى قرى وبلدات المحافظة “المسيحية” في منطقة بعلبك الهرمل كما يقول لل “المدن”.
في المقابل لا يتجاهل زملاء حبشي من نواب منطقة بعلبك الهرمل إستضافة دير الأحمر لعدد كبير من النازحين، إلا أنهم لم يوجهوا الدعوة لحبشي لحضور اللقاء الذي عقد في مجلس النواب بين نواب المنطقة ووزرائها، بحضور المحافظ بشير خضر وممثلي إتحادات البلديات، لمناقشة قضايا النزوح في المنطقة، والإطلاع على تفاصيل القرار الذي إتخذه رئيس الحكومة بضم المساعدات الى منطقة الهرمل الى مجلس الجنوب.
وفي إتصال مع النائب عن بعلبك الهرمل غازي زعيتر شرح ل”المدن”، بأن الدعوة للإجتماع وجهت بالأساس من رئيس كتلة نواب بعلبك الهرمل النائب حسين الحاج حسن (إتصلت به المدن للتوضيح ولم يجب). وشرح كيف أنه إستفسر عن الأمر من زملائه، فتبين أن النائب علي المقداد وجه دعوة الى حبشي للمشاركة في الاجتماع، خلال إطلالة إعلامية له، وكذلك جرى التواصل معه من قبل المحافظ بشير خضر.
علاقات أخوية
وإعتبر زعيتر في المقابل أن روح التضامن التي أظهرتها مختلف المناطق البقاعية في إيواء النازحين ليست غريبة على هذه المنطقة، التي حافظت على علاقات أخوية ممتازة بين المسيحيين والمسلمين في مختلف الظروف التي مر بها لبنان. منبهاً إلى أن “العدوان الإسرائيلي قد يبدو على البيئة الشيعية مباشرة إنما المستهدف هو كل لبنان”.
في قراءة سياسية لإجتماع نواب بعلبك الهرمل، بدا أيضا كمحاولة إمتصاص لحالة تململ بدأت تظهر نتيجة لضعف حجم المساعدات التي تصل المنطقة، والتي أعاد زعيتر جزءا منها لخطورة الأوضاع الأمنية.
ويعكس حبشي “المخاوف الوجودية التي بدأت تظهر لدى فئة واسعة من الطائفة الشيعية، وحتى لدى غير المنتمين إلى أي طرف حزبي. وهي حالة يعمقها إستمرار العدوان الإسرائيلي بما يؤدي إلى ترسيخ الإصطفافات بدلاً من تذليلها، وخصوصاً مع إنغماس الإيديولوجيا في المسائل السياسية”.
يقول حبشي في حديثه ل”المدن” إن ما أظهرته هذه الحرب فعلياً “هو أن الحزب الذي لا يملك القدرة على حماية لبنان، وليس الجيش كما كان يدعي، بينما الشرعية والجيش قادران على حماية لبنان عندما يلتف اللبنانيون حول الدولة”.
ومع ذلك يبدو الكلام في السياسة وخياراتها مؤجل الآن إلى ما بعد إنتهاء الحرب. وبحسب رئيس بلدية القاع بشير مطر فإن “الوقت ليس لتسجيل النقاط، ولا للمحاسبة على الخيارات. وعندما يأتي أحدهم هاربا من الموت، لا يمكننا إلا أن نستقبله، وأن نحرص على كرامته.” ويرى مطر “أن الحوار اللبناني- اللبناني تجسد عملياً عندما فتح القواتي بيته للمنتمي إلى بيئة حزب الله” معتبراً ذلك “خطوة جيدة جدا، يجب البناء عليها كي نتغلب على الخوف من الآخر”.
الجيش هو الحامي
إلا أن مطر لا ينفي الهواجس التي ولّدتها موجة النزوح الكبيرة الى المجتمعات المضيفة. وأبرزها، كما يقول “ما عبر عنه اللقاء الدرزي، الذي شدد على ضرورة التمسك بالأرض وعدم بيعها”. وهو إذ لا يقلل من أهمية هذه الهواجس، يدعو للتنبه “لكون وجود النازحين بيننا مؤقت، لأن كل واحد من هؤلاء لديه أرضه التي هي عزيزة على قلبه”. لافتاً الى الجانب الإيجابي لتوزع اللبنانيين وخياراتهم على مناطق مختلفة، والذي يرى أنه “شكل عاملاً أساسيا في الحفاظ على الأمان ببعض المناطق، كي تبقى قادرة على إيواء النازحين من المناطق الواقعة تحت الخطر”. ويتفق مطر مع حبشي على أن “الحامي الوحيد لكل اللبنانيين هي الدولة وأجهزتها الشرعية، من جيش وقضاء ومؤسسات” متمنياً “أن لا ينعكس العجز السياسي الذي ولدته الإصطفافات، على أداء الدولة في تأمينها للحاجات التي ولدتها الحرب على المستوى الاجتماعي والإنساني، سواء أكان ذلك بالنسبة للنازحين أو للمجتمعات التي إستضافتهم”.