مستقبل النازحين: القضيّة الغائبة عن مفاوضات الهدنة
كل الأوراق المتداولة حول احتمالات وقف النار تحصر نقاشاتها في الأمور العسكرية والتفاصيل الميدانية، وما بعد وقف النار أو وقف الأعمال العدائية. ورغم أن موجة التفاؤل مبالغ فيها بقرب التوصل الى أيٍّ من هذه المسوّدات، وسط مؤشرات إسرائيلية مقلقة حول مواعيد تحتسب بالأشهر لوقف النار، يبقى أن هناك يوماً تالياً لا يتعلق فقط بالساحة العسكرية، وإنما بقضية محورية تتعلق بوضع النازحين في اليوم التالي للهدنة.
قد يكون التحذير من «الترانسفير»، على غرار ما حصل في غزة، بدا للبعض مع موجات التهجير الاولى مبالغاً فيه. لكنه تدريجاً أصبح واقعاً يتعدّى ما حصل في غزة لجهة الاختلافات البنيوية والتأثيرات السياسية التي حكمت ملف النزوح، والمرشحة لأن تتفاعل، بعدما شملت الموجات أقضية كاملة جنوباً وبقاعاً. هذه الموجات اليومية لا يمكن التعامل معها بعد اليوم على أنها حالات موقتة، بفعل موجة التدمير التي تطاول القرى والبلدات المهجرة، ولدى اللبنانيين خبرة في موجات التهجير الكبرى خلال الحرب الطويلة ومستقبلها. المشكلة أن ثمة نزعة داخلية حتى الآن في التعامل مع الحرب الإسرائيلية الحالية على أنها تشبه حرب عام 2006، على مستويات الميدان والمعارك الضارية والقصف التدميري، وطبعاً على مستوى النزوح لجهة عودة النازحين متى توقف إطلاق النار كما فعلوا عام 2006 عندما دعاهم الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله حينها الى العودة الى بلداتهم. إلا أن هذه المقارنة مع مجريات عام 2006، تنطلق من معطيات خاطئة وتصل حكماً الى نتائج خاطئة، لأن اليوم التالي للحرب سيكون أسوأ من اليوم التالي لبدئها، ليس على مستوى الاستثمار السياسي وتفاعلات وضع حزب الله مهما كانت نتيجة الحرب، وإنما في مقاربة الوضع الداخلي من زاوية تنطلق من وضع النازحين ولا تتوقف عندهم فحسب.
حتى الآن، يتم التعامل مع مشكلات النزوح من الناحية السياسية – الأمنية في استثارة المخاوف من إمكانات حصول مشكلات داخلية بين مجتمعات مضيفة ونازحة وتحذيرات تعكسها تصريحات غربية، ومنها فرنسية، من حرب أهلية في لبنان. في المقابل، تجرى محاولات للتخفيف من وقع إشكالات تحصل، حتى لدى جهات أمنية، يمكن أن تستفيد منها لاحقاً في الاستثمار السياسي، عدا عن وقائع تحاول قوى سياسية مختلفة الاتجاهات التعامل معها برويّة من دون الإضاءة عليها. والتشديد فقط على النزوح كقضية إنسانية مجردة من تبعاتها، ومعزولة عن الإطار السياسي والاتفاق الذي يمكن التوصل إليه لوقف النار، لا يعكس فعلياً حقيقة ما يُخشى منه على النازحين وعلى الوضع اللبناني ككل.
عام 2006، لم يكن لبنان يرزح تحت أزمة اقتصادية وانهيار مالي، ورغم الاختلافات السياسية الداخلية، بقيت المؤسسات الرسمية عاملة، ولو بالحدّ الأدنى المقبول بعد مرحلة القصف العشوائي والتدمير الذي لحق بالبنى التحتية، على ضخّ الحياة مجدداً في الحياة اليومية. كما عملت قطر والسعودية وإيران على المساعدة في إعادة الإعمار وفي ترميم وبناء ما تضرّر وتهدّم ووضع البنى التحتية على السكة مجدداً. وفي العام نفسه، احتمل لبنان اعتصامات وسط بيروت في تشرين الاول لنحو عامين، وكل ما أحاط بأزمة المحكمة الدولية. موجة النزوح عام 2024 تأتي فيما لبنان منهار مالياً، ومؤسساته وصناديقه المالية التي كانت تعنى عادة بمشكلات التهجير الداخلي لدى كل الفئات مفلسة كما العائلات نفسها. ولم تظهر أيّ دولة الاستعداد للمساعدة المالية، ويضاف الى كل ذلك الانهيار التام في معظم المؤسسات الصحية والاجتماعيىة والبيئية، عدا عن تبعات النزوح السوري الذي تفاقم في السنتين الأخيرتين. ويضاف الى كل ذلك الخلاف السياسي العميق حول الحرب وتبعاتها.
حتى الآن، يتم التعامل مع التهدئة على أنها عسكرية محض. لكن ما إن تحصل الهدنة، حتى تعود الى السطح وبقوة الخلافات السياسية، لأنّ أيّ هدنة لن تكون مقرونة بوضع خطة إنقاذية، وستعود حكماً النقاشات والمحاصصات في كل ما يطرح من حلول سواء في ملف الرئاسة أو الحكومة، وستنكشف تباعاً مشكلات النزوح الداخلي مع كل ما سيخلفه ذلك على العائلات النازحة التي من غير الممكن أن تعود الى قراها وبلداتها في وقت قريب، في ظل التدمير الممنهج واقتراب الشتاء وانتشار الأوبئة في ظلّ ترهّل القطاع الصحي والاجتماعي، وشحّ المساعدات الخارجية واحتمال ارتباطها بمشاريع أخرى مزمنة.
حتى الآن، لا يزال الوضع مضبوطاً الى اليوم الذي يمكن أن تعلن فيه الهدنة أو وقف النار. آنذاك سيستفيق اللبنانيون على وقائع ميدانية وعلى غياب تام لمعالجات داخلية اعتاد اللبنانيون أن يقاربوها في محطات ساخنة مماثلة، من دون أن نتغاضى كذلك عن فكرة أن الحرب قد تطول، ومعها ستتضاعف كمية المشكلات المتأتّية عن النزوح، يضاف إليها تفاعل الخلاف الداخلي، في ظلّ غياب تامّ للسلطة بمعناها الفعلي، كما لأيّ مشروع حل دولي – إقليمي شامل، يعيد لبنان الى سكة الحل بما يتخطّى وقفاً ظرفياً للنار.