هل رئاسة الجمهورية شأن مسيحي فقط؟
أتعب الموارنة رئاسة الجمهورية وأتعبتهم. هي الموقع المسيحي الأرفع في الدولة. رأس الدولة أو هكذا يجب أن تكون في دولة برؤوس كثيرة أقلها ثلاثة رسمياً، وحقيقتها ثمانية إلى تسعة هم زعماء الأحزاب والطوائف، الذين خرجوا من الحرب بلا شرعية دستورية، ليحوّلوا الدولة كلها إلى شرعية الأمر الواقع.
بفعل اتفاق الطائف، تحولت الرئاسة الأولى مشرعة الأبواب أمام كل التدخلات، وهي كانت كذلك قبلاً، ولكن بشكل منمّق لم يترك للشغور مكاناً. هذا الأخير حطّ من قدر الموقع وقيمته، وأفرغ الرئاسة من كونها حاجة ضرورية للبلاد.
لم ينجح الطائف في تحويل الصلاحيات إلى الحكومة فعلاً، وإلى رئاسة الحكومة ضمناً، فتحولت طاولة مجلس الوزراء مجموعة متاريس، وأكياس رمل، يختبئ خلفها ممثلو الزعامات المتصالحة تارة، والمتخاصمة غالباً.
وحدها الرئاسة الثانية تمكنت من احتلال موقع متقدم، فصارت ولاية رئيس المجلس أربع سنوات قابلة للتجديد والتمديد، ولم يعد ممكناً حلّ مجلس النواب، ولا أعطيت صلاحية تفسير نصوص الدستور إلى المجلس الدستوري، ولا منح القضاء شرف محاكمة أعضاء المجلس.
وخرج المسيحيون من اتفاق الطائف، وما بعده، كتلة معارضة أقصتها الوصاية السورية، وهُمّش دورها في انتخاب رئيس أو تسمية وزراء. وأضعف عدم توافر الإحاطة المسيحية حول بعبدا، موقع الرئاسة أكثر، وجعل الرئيس رهينة أكثريات غير مسيحية.
ماذا بعد؟ لا يمكن تحميل الموارنة، (وليس المسيحيين ككلّ، إذ ليسوا شركاء في القرار بفاعلية) وزر وهن الرئاسة وحدهم. خلافاتهم أثرت عليها كثيراً، وانقساماتهم، بل عداواتهم، انعكست على مجمل الوضع المسيحي، لكن الشركاء يتحمّلون مسؤولية كبيرة في عدم احترام الشراكة، وعدم إعطاء قيمة متجددة للصيغة التوافقية التي قام على أساسها البلد. هم يريدون شركاء خنوعين، خاضعين، يقبلون بالأمر الواقع، ويرضخون لفرض رئيس ومصادرة الرئاسة وجعلها تحت إمرة السلاح والمصالح الخارجية. ولا يمكن نسيان ذاك الصاروخ الذي سقط في محيط قصر بعبدا يوم رفع الرئيس ميشال سليمان صوته معترضاً ورافضاً المضيّ في إقصاء الدولة. ولا يمكن تناسي عملية اغتيال الرئيس رينيه معوّض.
الواقع اليوم أن الرئاسة الأولى بحاجة إلى خريطة طريق تؤسس للمستقبل، إن لم يكن بدّ من تجاوز حالة المساكنة القائمة، إلى حالة متقدمة من الشراكة الوطنية، والمسؤولية تقع أولاً على الموارنة والمسيحيين، لتوفير حماية للموقع، كما فعل غيرهم في مواقع أخرى، ثم التلاقي مع الآخرين لتوسعة هذا الاحتضان، فلا يتحول الاحتضان خنقاً للرئاسة وأسراً لها، ولا يصير التمثيل المسيحي في تركيبة الدولة العليا، مجرد فولكلور. إنها رئاسة الجمهورية.