حماس والحزب: فات وقت ‘التقيّة’
لا مجال للتفاؤل بأن حركة “حماس” في غزة أو “حزب الله” في لبنان سيقرّان بالأخطاء التي أفضت إلى الكوارث التي حلّت بالعرب ولبنان وفلسطين، أو سيعترفان بأن “طوفان الأقصى” و”المساندة” أنتجا نكبة جديدة سيحتاج تجاوزها والتعاطي مع تداعياتها سنوات طويلة؛ فتاريخ كل الحركات والأحزاب والتنظيمات المتأسلمة لا يتضمن تراجعات أو اعترافات بالأخطاء أو اعتذارات لمن تضرّروا بأفعالهم، أو تغيير التوجّه والسياسات إلّا للخداع للخروج من مأزق وقتي ثم العودة مرّة أخرى إلى السياسات نفسها والأخطاء ذاتها في مرحلة لاحقة.
ويكفي دراسة حالة تنظيم “الإخوان” منذ تأسيسه في مصر، لتتبين أنه لم يشهد ندماً على أخطاء وقعت أو جرائم ارتُكبت أو كوارث أضرّت بالتنظيم نفسه وأساءت إليه، وحتى حينما انساقت “حماس” خلف “إخوان” مصر، ونسّقت معهم، واقتحم عناصرها الحدود المصرية، ثم أطلقوا النار على أفراد من الجيش المصري، ولاحقاً، في سياق أحداث ما سُمّي “الربيع العربي”، بالتوغل في مدن مصرية والوصول إلى سجون مصرية واقتحامها وإخراج سجناء من “حماس” وتنظيمات متأسلمة أخرى، ناهيك عن تبنّيها خطاباً إعلامياً معادياً لمصر وجيشها وشعبها، لم تعتذر “حماس” أو تبدي تراجعاً، وإنما برّرت الأخطاء واستعطفت المصريين!
وحين سقط حكم “الإخوان” أصدرت “حماس” وثيقة زعمت فيها فضّ الارتباط بهم، في تصرف يعرفه المتابعون لتاريخ تنظيم “الإخوان” وفروعه باتباع “التقيّة” للهروب من المسؤولية. لذلك فالثقة مفقودة في التنظيمات والجماعات والأحزاب الإسلامية مهما اختلفت مسمياتها من “الإخوان” إلى “داعش”، ومن “جبهة النصرة” إلى الجبهة السلفية في مصر ومن “حماس” إلى “حزب الله”. ليس فقط لأن الناس أدركوا أن تلك التنظيمات والميليشيات “تُربّي” أعضاءها وعناصرها على مبدأ “التقيّة” الذي يقوم على إظهار ما لا يبطنه ذلك العنصر، ولكن أيضاً لأن التجارب الواقعية أثبتت أن كل تنظيم سياسي يرفع راية الدين، يخالف المبادئ التي يردّدها إذا تعارضت مصالحه مع مبادئه، ويضرب عرض الحائط باتفاقاته وعهوده ليتفادى عاصفة تمرّ، ثم يعود مجدداً إلى الحماقات والتجاوزات.
حتى حينما أصدر “الإخوان” كتابهم الشهير “دعاة لا قضاة” داخل سجون العهد الناصري، تبيّن بعدها أنها كانت مناورة للتنصّل من جرائم التنظيم، تماماً كما فعل قبل ثورة تموز (يوليو) 1952 عندما اغتال عناصره القاضي أحمد الخازندار ورئيس الوزراء الأسبق محمود النقراشي، فلجأت الجماعة إلى الحيلة نفسها، وروّج مرشدهم الأول حسن البنا، أن عناصر التنظيم السرّي للجماعة (الجناح المسلّح) فعلوها من دون الرجوع إليه، وأطلق عبارته التي سوّقها أتباعه: “ليسوا إخواناً ولا مسلمين”، ليتنصّل هو وجماعته من جرائم القتل وحوادث الحرق، وعاد التنظيم بعدها ليحاول اغتيال عبد الناصر، ثم في مرحلة لاحقة أفرج السادات عنهم وتوغل التنظيم في مفاصل الدولة حتى وصل إلى الحكم. وبعد ثورة الشعب المصري ضدّ حكم التنظيم عادت الجماعة إلى إشعال مصر بالحرائق واغتيال المعارضين للتنظيم والانتقام من كل شخص أو فئة أو جهة ساهمت في إبعادهم عن الحكم.
تدرك “حماس”، ويعلم الباقون من قادة “حزب الله”، أن الولايات المتحدة حريصة على تفادي حرب مباشرة بين إسرائيل وإيران، ليس كراهية للحروب أو خشية وقوع حرب إقليمية، ولكن لأن حرباً كتلك ستجبر الأميركيين على المشاركة فيها للدفاع عن إسرائيل، بينما لا تكترث واشنطن بحرب إسرائيل ضدّ “حماس” في غزة و”حزب الله” في لبنان مهما أوقعت من ضحايا بين الفلسطينيين واللبنانيين وسبّبت دماراً، لأن الولايات المتحدة لن تكون مجبرة على الدخول كطرف محارب وإنما سيقتصر دورها على تقديم الدعم العسكري والسياسي لإسرائيل، ولا مجال لـ”التقيّة”، فلا أفق حقيقياً للعدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان، واليوم التالي يأتي أو لا يأتي ليس مهمّاً بالنسبة للأميركيين بقدر أهمية عدم دخول الولايات المتحدة حرباً مباشرة قبل، وربما بعد أيضاً، الانتخابات الرئاسية الأميركية.
وباستثناء بعض التدخّلات الشكلية، أطلقت واشنطن يد نتنياهو ليفعل ما يريد طالما العدوان اقتصر على أذرع إيران وليس إيران ذاتها، وهو وضع استغله رئيس حكومة إسرائيل لتحقيق المزيد من الانتصارات، حتى لو فوق بحار الدم الفلسطيني واللبناني، لتضاف إلى رصيده الذي أنقذه من الإطاحة من منصبه ورفع سقف طموحاته في تنفيذ مخططات للتوسع والقضاء على أعداء إسرائيل على الحدود، فصار على “حماس” و”حزب الله” الاستمرار في الحرب للدفاع عن الحركة والتنظيم بغض النظر عن خسائر الفلسطينيين والكوارث التي حلت بلبنان. فلا مجال إذاً لوثيقة تعلن فيها “حماس” التراجع أو بيان لـ”حزب الله” يقرّر فيه التوقف، حتى لو من باب “التقيّة ” أو التحايل السياسي؛ فقرار وقف الحرب على الجبهتين بيد نتنياهو وحده، وهو لا يكترث بمصير الرهائن أو تظاهرات ذويهم، تماماً كما لا تكترث “حماس” بكوارث أهل غزة، أو “حزب الله” بمصائب اللبنانيين.