من غلبة «الممانعة» إلى غلبة الدولة

من غلبة «الممانعة» إلى غلبة الدولة

الكاتب: شارل جبور | المصدر: الجمهورية
21 تشرين الأول 2024

عندما أطلق الرئيس صائب سلام شعاره «لا غالب ولا مغلوب» على إثر ثورة العام 1958، كان القصد منه أن لا غلبة طائفة على أخرى، وأنّ لبنان لا يستقيم في ظل مشاريع الغلبة، فهل ينطبق هذا الشعار على واقع الحال اليوم؟

الأزمة الممتدة فصولاً منذ العام 2005 ليست طائفية ولا تشبه أزمة العام 1958 ولا حرب العام 1975، إنّما أزمة خلاف عميق بين مشروعَين، بين مَن يريد ربط لبنان بساحات «محور الممانعة» على قاعدة سلاح خارج الدولة يتحكّم بمفاصل الدولة وقرار الحرب، وبين مَن يريد تحييد لبنان وأن تكون الدولة، كأي دولة في العالم، صاحبة القرار الوحيدة على المستوى السيادي.

وعلى رغم من أنّ أحد أوجه أزمتَي 58 و 75 تمثّل في البُعد الخارجي النزاعي على مستوى المنطقة والذي لا يخرج، في شكل أو بآخر، عن سياق المواجهة الحالية، إلّا أنّ الوجه الآخر كان يتعلّق بعدالة التمثيل والشراكة السياسية في ظل مطالبات بتعديل النظام السياسي، وإذا استُثنِيَت دعوة السيد حسن نصرالله إلى مؤتمر تأسيسي وتراجعه لاحقاً عن هذه الدعوة التي لم يكشف فيها أصلاً عن فحوى التعديلات التي أراد إدخالها في صلب النظام، فإنّه لم يَصدُر عن «حزب الله» ما يفيد أنّه في وارد تسليم سلاحه إلى الدولة مقابل مكاسب وصلاحيات سلطوية، ولا بل كان يؤكِّد دوماً على مركزية سلاحه ورفضه أي نقاش في هذا السلاح الذي شكّل محور الانقسام منذ العام 2005، وهذا يؤكِّد بأنّ الهدف الأول ربط لبنان بإيران وليس البحث عن عدالة تمثيل إذا كان هناك من انتقاص من هذا التمثيل، وهو غير موجود.

وكلمة حقّ تقال، أنّه على الرغم من الخلاف المزمن حول «أي لبنان نريد» بين المسيحيِّين والسنّة، إلّا أنّهما نجحا في إرساء دعائم دولة لم يكن ممكناً قيامها وتحوّلها إلى نموذج في الشرق الأوسط لولا توافقهما، والأهم قدرتهما على تجاوز الخلافات العميقة في التوجّهات السياسية وتقاطعهما على مشروع الدولة في محطات عدة، بدءاً من ميثاق العام 1943، مروراً بأزمة العام 1958 وحرب العام 1975 التي انتهت بصياغة «وثيقة الوفاق الوطني» في الطائف، وصولاً إلى العام 2005 وانتفاضة 14 آذار بعنوانَي «لبنان أولاً» و«الدولة أولاً»، فيما تعذّر الاتفاق مع «حزب الله» على مساحة مشتركة تتجسّد بالدولة.

وكلمة حقّ تُقال أيضاً، أنّ الخلاف حول الصلاحيات هو مسألة ثانوية مقابل الخلاف حول دور لبنان الذي شكّل دوماً محور الخلاف وجوهره، بين مَن يريده في قلب سياسات المحاور الإقليمية ومنصة متقدّمة للمواجهة، وبين مَن يريد تحييده عن هذه السياسات، وفي كل مرّة نجح فيها التحييد انتعش لبنان وازدهر، وفي كل مرّة سقط التحييد سقط لبنان في الحروب والفوضى.

وفي الوقت الذي كان يتخبّط لبنان في النزاع المستمر حول السلاح ويعيش أزمة شغور رئاسي، حصلت عملية «طوفان الأقصى» وما تبعها من حرب إسناد أعلنها «حزب الله»، وقد أدّت هذه التطوّرات إلى قلب الأولويات مع إدخال لبنان في حرب تحوّلت عنواناً انقسامياً جديداً حول السلاح، بسبب عدم جواز اتخاذ قرار بهذه الخطورة من خارج المؤسسات، وبعيداً من أي توافق وانعكاساته تطاول جميع اللبنانيِّين، لكنّ هذه الحرب التي لم تكن في الحسبان قادت إلى تغيير استراتيجي في السياسة الأميركية المتساهلة مع إيران ودورها، لأنّ أولويتها الدفاع عن وجود إسرائيل الذي تهدّد في عملية الطوفان، والضوء الأخضر الممنوح لنتنياهو يؤشر إلى قرار أميركي-إسرائيلي بإبعاد إيران بالحدّ الأدنى من غزة وعلى حدودها في لبنان وسوريا.

والأشهر القليلة المقبلة ستكون كفيلة بإنهاء الدور العسكري لحركة «حماس» و»حزب الله» والميليشيات الإيرانية في سوريا، ويخطئ مَن يُجري المقارنة بين هذه الحرب وحرب تموز 2006، فالوضع مختلف جذرياً، ومَن بادر إلى هذه الحرب ليس إسرائيل، إنّما «حماس» و»حزب الله» وخلفهما إيران، بالتالي يتحمّلون بالتكافل والتضامن مسؤولية المبادرة إلى الحرب وما سينتج منها، ومن هذه النتائج لبنانياً أنّ لبنان لن يبقى ساحة متقدّمة لإيران، ما يعني أنّ «حزب الله» سيفقد سلاحه ودوره الإقليمي. لكن هل هذا يعني أنّ الحزب أصبح في موقع المغلوب والفريق الآخر في موقع الغالب، واستطراداً هل البيئة الشيعية بحاجة لطمأنة أم لمصارحة؟

الوضع الذي نشأ منذ العام 1990 شكّل مشروع غلبة لمحور الممانعة على سائر اللبنانيِّين، وتسليم «حزب الله» لسلاحه لا يعني إطلاقاً الدخول في مشروع غلبة جديد، إنّما يشكل تصحيحاً وتصويباً ونقلاً للواقع اللبناني من غالب ومغلوب إلى لا غالب ولا مغلوب، لأنّه بذلك تتحقّق المساواة بين جميع اللبنانيِّين، فلا سلاح لأي فريق تحت أي مسمّى، والجميع تحت سقف الدولة والدستور.

فمعادلة الرئيس صائب سلام انتُهكت منذ العام 1990 من خلال احتفاظ «حزب الله» بسلاحه، وتسليمه لسلاحه يُعيد إحياء هذه المعادلة، ومَن يحاول تصوير خلاف ذلك، إمّا لكونه متأثِّراً بالسردية التي حاولت إيهام اللبنانيِّين بأنّ احتفاظه بسلاحه مسألة طبيعية وضرورية، وإمّا هو تصوير مفتعل في محاولة لإعادة القديم إلى قدمه، الأمر الذي أصبح مستحيلاً بفعل الضوابط الدولية والإقليمية على المشروع الإيراني.

وتسليم «حزب الله» لسلاحه لا يعني بأي شكل من الأشكال غلبة مسيحية أو سنّية أو درزية على الشيعة، وكانت لتصحّ هذه الغلبة لو كانت أحزاب هذه الطوائف مسلّحة وتريد الاحتفاظ بسلاحها، فيما الخلل المَشكو منه منذ العام 1990 أنّ الحزب يرفض تسليم سلاحه ويُمعِن في مشروع غلبة ويُبقي لبنان ساحة حرب وفوضى.

وهناك فرصة حقيقية اليوم للتخلُّص من معادلة غالب ومغلوب التي حكمت لبنان منذ 34 سنة، والانتقال إلى معادلة لا غالب ولا مغلوب، والكفيلة بإعادة الاستقرار والدور الفعلي للدولة. وعلى رغم من أنّ هذا الأمر من أبسط البديهيات بالنسبة إلى معظم اللبنانيِّين الذي يريدون دولة فعلية، إلّا أنّ شريحة شيعية وازنة تعتبر أنّ تسليم «الحزب» لسلاحه يعني إضعاف الشيعة في النظام اللبناني، وهذا خطأ ومردّه طبعاً إلى حالة التعبئة والأدلجة وغسل الأدمغة التي جعلت هذه الشريحة تعتاد على فائض القوة وتتعامل مع الاستثناء المفروض بالقوة بأنّه قاعدة ومسألة طبيعية، وهناك ضرورة لمخاطبة هذه الشريحة ومصارحتها، لأنّ لا مصلحة وطنية بأن تشعر أي فئة بأنّها خائفة ومغلوبة ومهمشة، وعلى رغم من عدم صحة هذا الشعور، إلّا أنّ من الضرورة الوطنية تأكيد الآتي:

ـ أولاً، المواجهة الممتدة فصولاً في لبنان بدءاً منذ العام 1990 مروراً بمحطة العام 2005 ليست مواجهة طائفية، إنّما مواجهة بين مَن يريد دولة فعلية وطبيعية كأي دولة في العالم، وبين من يريد لبنان جزءاً من محور إقليمي.

ـ ثانياً، هناك اقتناع لدى معظم الطوائف والأحزاب بأنّ لبنان لا يُحكم من حزب ولا من طائفة، إنّما يُحكَم بالشراكة، وأي محاولة للهيمنة مصيرها السقوط الحتمي، وهناك تعطُّش اليوم لطي صفحة الحروب وعدم الاستقرار والانخراط في بناء الدولة الفعلية.

– ثالثاً، شكّل مشروع «حزب الله» مشروع غلبة في الداخل مناقض للدستور والميثاق، وسقوط مشروع الغلبة لن يكون لمصلحة مشروع غلبة آخر، إنّما لمصلحة مشروع الدولة الذي يحقِّق المساواة لجميع اللبنانيِّين.

ـ رابعاً، الترويج المتعمّد بأنّ سقوط مشروع «حزب الله» يؤدّي إلى تهميش الشيعة في غير محله ولا يَمُتّ إلى الواقع ولا إلى الحقيقة بصلة، فما هو للشيعة من صلاحيات داخل النظام لا يمكن المساس به، والتهميش الذي لحق بالطوائف الأخرى سببه مشروع الحزب بالذات الذي همّش كل مَن همّ ضدّ مشروعه، وأحد أسباب هذا التهميش تغييب دور الدولة، وعندما تستعيد الدولة دورها لن تشعر أي جماعة أو أي مواطن بالتهميش.

ـ خامساً، الطائفة الشيعية بمرجعياتها الروحية والحزبية والنخبوية مدعوّة إلى نقاش داخلي لتقييم تجربة ربطها، عن طريق أحد أحزابها، بالمشروع الإيراني، وهل خدم هذا الربط هذه الطائفة أم أضرّها وأساء لها؟ وكيف استفاد المواطن الشيعي من ربطه بالمحور الإيراني؟ وهل هدف هذا المواطن العيش في حالة مستقرة أم في حروب دائمة؟ وبمعزل عن التساؤلات فإنّ هذه الطائفة مدعوّة لمراجعة جدية لتجربة انعكست سلباً عليها وعلى جميع اللبنانيِّين.

– سادساً، يجب أن نتفق كلبنانيِّين عل أنّ الثابت هو الدولة التي وحدها تُمسك بالسيادة والحدود ومفاصل القرار ولا غلبة داخلها سوى لمَن يلتزم بالدستور والقوانين، والمتغيِّر هو النظام، وهذا ما يفترض إخضاعه لنقاش في المرحلة المقبلة سعياً إلى نظام لامركزي يُحاكي العصر ويبدِّد الهواجس ويجسِّد الطبيعة التعدّدية للبنان.