ثلاثي تشرين الملعون… قدر لبنان!

ثلاثي تشرين الملعون… قدر لبنان!

الكاتب: نبيل بومنصف | المصدر: النهار
18 تشرين الأول 2024

مرّت الذكرى الخامسة لـ”ثورة 17 تشرين” الأول (أكتوبر) 2019 في لبنان بما يشبه انقطاع الذاكرة تماماً لدى اللبنانيين عمّا كان يمكن أن يُسجّل كأعظم حدث في التاريخ الحديث للبنان لو قيّض لتلك الثورة أن تستمر حتى تحقيق أهدافها الكبيرة. ولعل المفارقة المفجعة في مرور ذكرى انطلاق أوسع وأكبر انتفاضة اجتماعية عابرة للطوائف والمناطق والطبقات والفئات من دون استثناء، أن الطبقة السياسية اللبنانية التي شكّل تغييرها الهدف الأول للثوار والمنتفضين، أثبتت رسوخها وقوتها اللامتناهية، فيما لم يمض وقت طويل قبل أن تتهاوى الثورة وتتراجع وتختفي تماماً. وإذا كان هذا الإخفاق التاريخي للثورة يستحق مقاربات معمّقة ومفصّلة ولو بعد خمسة أعوام على الحدث الذي أشعله الانهيار المالي في لبنان على يد طبقة مالية ومصرفية وسياسية وإدارية شكّلت شبكة مافيوية في الإمساك بلبنان، فإن اللحظة الراهنة التي يُسحق فيها لبنان تحت وطأة الحرب تنحرف بذكرى الثورة حتماً إلى الجانب الخلفي الأخطر من جوانب فشلها وأسبابه على مستوى العجز المطلق عن تبديل واقع البلد.

والحال، أن ليس ما يشبه فشل الثورة ومعها المجتمع اللبناني كله عن إحداث التبديل التاريخي الذي أملاه وأوجبه الانفجار الأشد وقاحة لمنظومة الفساد في لبنان، سوى الانهيار التاريخيّ الأفدح للدولة والقوى السياسية والمدنية قاطبة، أمام استفحال تفرّد “الحزب” بالقرار الاستراتيجي والهيمنة المديدة على ما يُسمّى دولة، وهي ليست كذلك، إلى حدود تماديه بإشعال حرب صارت السبب الحصري والأخطر على بقائه وقوته أولاً ومعها البلاد كلها.

تبلغ العدوانية الإسرائيلية المتدحرجة في الحرب التي تشنها على الحزب والمناطق اللبنانية حدوداً غير مسبوقة إلّا في غزة، بما يوقف ويمنع ويردع المقاربات الموضوعية للعودة إلى تسلسل التطورات وتحديد المسؤوليات التي لا تحتاج إلى عمق شروحات في تناول ظروف المقتلة التي يرزح تحتها اللبنانيون بفعل ذاك القرار المنفرد المتفرّد الأحادي الذي اتخذه “الحزب” في الثامن من تشرين الأول 2023 بإشعال “جبهة مساندة غزة” من جنوب لبنان. مع ذلك فإن محطات تشرين اللعينة المشؤومة المتعاقبة هذه، والتي ستكتمل درّة تاجها في نهاية هذا الشهر بإحياء الذكرى الثانية لأزمة الفراغ الرئاسي في لبنان، تحدونا حتى تحت دوي التدمير الحاقد الذي ترتكبه الآلة الإسرائيلية، إلى التمعن في مصير الاستسلام اللبناني التاريخيّ في استجرار الحروب والكوارث وإعادة عقارب التاريخ القاتم إلى الوراء. حتى ليمكن الجزم بأن المسار القاتم هذا لم تكسره في نصف القرن الأخير سوى محطة تاريخيّة واحدة هي انتفاضة الأرز الاستقلالية في 14 آذار (مارس) 2005 بكل ظروفها الداخلية والخارجية المعروفة، والتي أثبتت آنذاك، ولا تزال، حقيقتها المدوية إلى الآن ولاحقاً وفي كل وقت، أن السيادة اللبنانية هي أولاً وأخيراً وقبل كل شيء، المدماك الأساسي الذي لا قيامة لدولة حقيقية وصلبة وازدهار اقتصادي في لبنان من دونها، وإلّا ظل أرضاً مستباحة على طلب كل خارج يرتبط بداخل طائفي ما. لم يطل الزمن حتى انهارت الدولة تماماً بعد انتفاضة الأرز، ووضع “الحزب” ومحوره يده على مقدّرات السلطة، وها هي النتيجة المشؤومة: لا رئاسة ولا دولة ولا سلام، والحرب الإسرائيلية تهدّد لبنان بكامله، والحزب الأسطوري يواجه أخطر الأخطار عليه منذ تأسيسه.

لم يتفق اللبنانيون يوماً على التاريخ كما على المستقبل، ولكن الحاضر الراهن يبدو الأشدّ قسوة وخطورة من كل شيء، ما دامت محطات تشرين وحدها تختصر هذا المصير القاتم.