خاص- ثورةٌ بين الأمل المُشرق وخيبة التوقعات
في ١٧ تشرين الأول ٢٠١٩، شهد لبنان انطلاق ثورة غير مسبوقة، حيث نزل مئات الآلاف من اللبنانيين إلى الشوارع، مطالبين بإسقاط الطبقة السياسية الفاسدة وإحداث تغيير حقيقي في نظام الدولة.
شاركت في هذه الانتفاضة بكل ما أملك من أمل، كنت أشعر أننا على أعتاب حقبة جديدة، وأنه بإمكاننا أخيرًا بناء وطن يرتكز على العدالة الاجتماعية، الكفاءة، ومحاسبة كلّ فاسدٍ ومجرم.
كانت لحظات مفعمة بالحماسة، حيث تلاشت الفروقات الطائفية والمناطقية، وأصبح حلم “كلن يعني كلن” هو العنوان الجامع لكل اللبنانيين.
لكن مع مرور الوقت، بدأت تلك الآمال تتلاشى تدريجيًا.
أسباب الدعم والأمل الأولي
حين اندلعت الثورة، كنت من الداعمين بقوة، وشعرت أن صوتي وصوت غيري لم يعد بالإمكان تجاهله.
المطالب كانت واضحة: دولة مدنية، محاسبة الفاسدين، وإلغاء نظام المحاصصة الطائفية.
كنا جميعنا نؤمن أن الشارع سيفرض نفسه على السلطة، وسيؤدي إلى تشكيل نظام جديد يعبر عن تطلعات شعبٍ عانى من الأمرّين لا عن مصالح النخب الحاكمة.
الحماسة والاندفاع كانا نابعين من رؤية كل أطياف المجتمع التي اتحدت للمرة الأولى تحت راية واحدة، بعيدًا عن الخنادق السياسية المعتادة.
كانت تلك الأيام مليئة باللحظات التي أشعرتني أن المستقبل بدأ يتغير حقًا: إغلاق الطرقات، الحوارات المفتوحة في الساحات، الأغاني والهتافات التي تحولت إلى شعارات ملهمة.
بداية الإحباط: تحوّل المسار
مع الوقت، بدأت تتكشف تحديات الثورة بشكل واضح.
شعرت بالإحباط تدريجيًا مع غياب تنظيم فعلي للثوار، وفشلهم في تشكيل قيادة موحدة قادرة على التفاوض أو فرض رؤية سياسية بديلة.
القوى السياسية التقليدية، التي كنا نحاول الإطاحة بها، استعادت توازنها واستخدمت كل أدواتها: التخويف، التضليل الإعلامي، وإثارة النعرات الطائفية، لتفكيك الشارع وفي آخر المطاف وللأسف نجحت.
رأيت كيف تحوّلت بعض المجموعات إلى صراعات جانبية، وكيف استغلت بعض القوى الفراغ لركوب الموجة وتحقيق مكاسب شخصية أو سياسية. هنا بدأ شعوري بالخيبة، إذ وجدت أن الثورة، التي كانت واعدة، بدأت تفقد بوصلتها تدريجيًا.
انهيار الأمل بعد تفاقم الأزمات
بدل أن تؤدي الثورة إلى التغيير المنشود، دخلنا في نفق طويل من الأزمات: انهيار اقتصادي غير مسبوق، تفشي الفقر، وارتفاع معدلات الهجرة. شعرت أن صوتي، وصوت مئات الآلاف من الشباب الذين حلموا بوطن جديد، تم تجاهله بالكامل.
المؤسسات المالية انهارت، والعملة الوطنية فقدت قيمتها، فيما بقيت الطبقة السياسية متماسكة متربّصة على كراسي المجالس، تتبادل الاتهامات دون أن تتحمل مسؤوليتها.
كان انفجار مرفأ بيروت في ٤ آب ٢٠٢٠ محطة حاسمة في تعميق إحساسي بالإحباط. شعرت أن كارثة بهذا الحجم كان من المفترض أن تكون القشة التي تُسقط النظام، لكنها مرت كسابقاتها دون محاسبة فعلية، ودون أي تغيير في الأداء السياسي.
الدروس المستخلصة وخاتمة مؤلمة
ما أزعجني حقًا هو أنني أدركت لاحقًا أن الحلم بالتغيير لا يكفي وحده. الثورة كانت تحتاج إلى تنظيم أعمق، إلى رؤية سياسية ناضجة وخطة واضحة للتحرك. في غياب هذه المقومات، تحولت الانتفاضة من فرصة للتغيير إلى محطة من محطات الإحباط المتكررة التي يعاني منها اللبنانيون.
ورغم إحساسي بالخسارة، ما زلت أؤمن أن تلك اللحظات التي عشناها في الساحات لم تكن بلا معنى. فقد زرعت الثورة في قلوبنا بذور الوعي، وعلّمتنا أن التغيير ممكن، ولو أنه يتطلب نضالًا طويل النفس. الثورة لم تمت، لكنها أصيبت بخيبة أمل مثل كثيرين منا.
ربما سيأتي يوم تُستعاد فيه هذه الطاقة، ولكن حينها سنكون أكثر وعيًا، وأقل اندفاعًا، وأكثر استعدادًا لمواجهة العقبات.
في النهاية، أكتب هذه الكلمات بمزيج من الحزن والأمل، حزن على ما فات، وأمل أن يكون ما عشناه بداية مسار طويل نحو وطن يستحقه أبناؤه.