إيران تلعب «صولد» في لبنان: إنها العاصفة
هناك هاجس واحد يقود نتنياهو ورفاقه في هذه المرحلة. إنّه توجيه ضربة قوية إلى «الرأس»، أي إيران. ففي تقديره أنّ ضربة كهذه تضعف النظام وتتكفل بخضوع «حزب الله» وسائر أذرعه الإقليمية. وفي المقابل، رفع نظام طهران مستوى التحدّي في لبنان إلى الحدّ الأقصى، وقرّر اللعب «صولد»: «إما قاتل وإما مقتول»!
في الأيام الأخيرة، فوجئ كثيرون بأنّ «حزب الله» أظهر استعادة لبعض قدراته في مواجهة إسرائيل. ففي الجنوب، هو يتصدّى بفاعلية لتوغّل جنودها. وفي العمق الإسرائيلي، نجح في تحقيق استهدافات مركّزة لمواقع عسكرية، للمرّة الأولى منذ اندلاع الحرب. وقد أوقع، الأحد الفائت، نحو 100 إصابة في صفوف الإسرائيليين بين الجنوب وحيفا. وقد دفع هذا التصعيد بوزير الدفاع الإسرائيلي يؤاف غالانت إلى الاتصال بنظيره الأميركي لويد أوستن لإبلاغه أنّ إسرائيل ستردّ بقوة على هذا الاستهداف.
وهذا «الانتعاش» في قدرات «الحزب» يُعتبر مفاجئاً بعد «التلاشي» الذي تسببت به الضربات الإسرائيلية السيبرانية والاستخبارية والجوية المكثفة، والتي أصابت الكوادر والجسم القيادي بخسائر جسيمة. ورأى الخبراء أنّ هذا «الانتعاش» هو الدليل القاطع إلى أنّ إيران أمسكت تماماً بزمام المبادرة في «الحزب»، وهي تدير عملياته عملانياً، بواسطة خبرائها في «الحرس الثوري». وهذا ما عوّض الخلل الناجم عن تضعضع هيكلية «الحزب» التنظيمية.
وعلى هذا الأساس، يتعاطى الإسرائيليون مع المواجهات الحالية على جبهة لبنان في اعتبارها مواجهات مباشرة مع الدولة الإيرانية ونظامها، بأدمغته وصواريخه ومسيّراته ومقاتليه، وليس مع «حزب الله» تحديداً، كفصيل لبناني. وهذا الاقتناع يزيد من رهان إسرائيل على أنّ الأولوية في هذه المرحلة يجب أن تكون تسديد الضربة إلى إيران لإضعاف قدرات نظامها. فإصابة الرأس يؤدي تلقائياً إلى شلل الأطراف.
هذا الخطر يستعد الإيرانيون لمواجهته. وهم يدركون أنّ إسرائيل عاجزة عن تنفيذ الضربات الفعّالة من دون تغطية سياسية وشراكة عملانية من جانب الولايات المتحدة. كما أنّها تحتاج إلى موافقة دول عربية كالأردن والعراق والمملكة العربية السعودية على استخدام مجالاتها الجوية لتنفيذ المهمات الهجومية. ولذلك، يجول وزير خارجيتها عباس عراقجي على هذه الدول مهدّداً إياها بالعواقب إذا وافقت على الطلب الإسرائيلي.
حتى الآن، إدارة الرئيس جو بايدن تضع ثقلها السياسي والعسكري إلى جانب الإسرائيليين، لكنها تبدي قلقها من المغامرة التي يريد نتنياهو خوضها، لأنّها قد تشعل الشرق الأوسط، خصوصاً في لحظة الانتخابات الرئاسية، ما يؤدي بالتأكيد إلى احتراق حظوظ كامالا هاريس وفوز دونالد ترامب. ويبدو أنّ نتنياهو يبتز بايدن وهاريس بإتقان: إذا لم تشاركونا الحرب ضدّ إيران كما نريدها، فسنشعل الحرب بأنفسنا ونجبركم على الانخراط فيها، في اللحظة التي نختارها، وعندئذ، ستحترقون في الانتخابات.
بعد مساومات طويلة، واضح أنّ بايدن رضخ لنتنياهو، وبات مستعداً لتغطية الحرب. وطلائع الموافقة ظهرت في تزويد إسرائيل منظومة «ثاد» الأحدث والأكثر فاعلية في العالم لمواجهة الصواريخ البالستية. ولذلك، تبدو العملية ضدّ إيران محسومة، لكن الاستهدافات ليست واضحة، وكذلك الساعة الصفر. فقد لوّح غالانت بأنّ الضربة ستكون «مفاجئة» و«قاتلة». ولكل من هاتين العبارتين مغزاه الواضح.
إذاً، مرّت حرب إسرائيل ـ «حزب الله» بفترة انتظار قصيرة على الأرجح. وبدا واضحاً، بعد ضربة النويري، أنّ الإسرائيليين أوقفوا تقريباً ضرباتهم الجوية الدموية للأحياء الكثيفة السكان في بيروت وضاحيتها الجنوبية. ويقال إنّ واشنطن هي التي طلبت منهم ذلك، في سياق محاولاتها الرامية إلى دفع «الحزب» والسلطة المركزية إلى القبول بمشروع الحل المتداول في مجلس الأمن، والمرتكز أساساً إلى تنفيذ القرار 1559 وإنتاج طبقة سياسية جديدة. فلا داعي لارتكاب حمام دم في حق المدنيين، إذا كان ممكناً تحقيق النتائج عبر الأقنية الديبلوماسية. ولكن، بعد ضربة حيفا، لم يعد احد قادراً على رسم التوقعات.
ودخل أمس معطى جديدٌ على المعادلة، وهو أنّ الجيش الإسرائيلي حدّد لحكومة نتنياهو الشروط التي لا يمكن التنازل عنها لوقف الحرب في لبنان، وهي تتجاوز نزع سلاح «الحزب» وإقامة منطقة عازلة إلى تثبيت منظومات مراقبة على الحدود والمعابر والمرافئ والمطار تمنع إعادة التسلح، والسماح لإسرائيل بتنفيذ عمليات في لبنان عندما تدعو الحاجة إلى ذلك. وقد يعمل الإسرائيليون على تسويق هذه الخطة دولياً.
حتى الآن، الأجوبة التي يتلقّاها الوسطاء من مرجعيات الحكم في لبنان تتجنّب التزام القرار 1559، الرامي إلى حل الميليشيات، وتبدو بعيدة جداً عن الطروحات التي يجري تداولها في مجلس الأمن، حول إصدار قرار جديد وشامل يتضمن «أجندة» تسوية قوامها القرارات 1701 و1559 و1680، تحت الفصل السابع ليُصار إلى تنفيذه بالقوة، ومشفوعة بعملية إنقاذ سياسية واقتصادية داخلية طموحة. ومن الواضح أنّ إيران سترفض بأي شكل قراراً كهذا، لأنّه يعني انتهاء نفوذها في لبنان، والأرجح أنّها ستحاول تعطيله برفع مستوى التحدّي عسكرياً من لبنان ضدّ إسرائيل، كما ظهر في الأيام الأخيرة.
وهكذا، فإنّ لبنان يشهد اليوم عملية «عضّ أصابع» عنيفة وشرسة جداً بين إسرائيل وإيران. وفيها يبدو التراجع النسبي لمستوى العنف الإسرائيلي لبضعة أيام، في بيروت على الأقل، أشبه بالهدوء الذي يسبق العاصفة على إيران ولبنان في آن معاً، إذا تعذرت التسويات، لا أحد يعرف ما الذي سيبقى بعدها وما الذي سيزول.