حدود المواجهة الإسرائيلية – الإيرانية تحدّد اتجاهات الريح في لبنان وغزة
فيما كانت الضربةُ الإسرائيليةُ لإيران تُسابِق اتصالاتٍ متعددة الاتجاه لضَبْطها تحت سقف عدم التسبّب بإشعال حربٍ شاملةٍ إقليمية، حاولتْ بيروت رَصْدَ الإشاراتِ التي تواكب «دبلوماسيةَ الضبط» وربْطَ النقاط في محاولةٍ لاستشراف ما قد يكون على جبهة لبنان المشتعلة، في ضوء الاقتناعِ بأنها في صلب «الأخذ والردّ» الذي يدور مع طهران والذي أدارتْ له محركاتها بأقصى قوة عبر جولة وزير خارجيتها عباس عراقجي في المنطقة.
وإذ بدا من الصعب رسْمُ صورةٍ حيال ما قد يُقِدم عليه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في ردّه على الهجوم الصاروخي الإيراني الذي «ثأر» لاغتيال إسماعيل هنية في طهران والسيد حسن نصرالله في الضاحية الجنوبية لبيروت، هو الذي يُخشى أن يُظْهِر الوجه الأكثر مغامَرة ومراوغَةً في المرحلة الانتقالية أميركياً قبل 3 أسابيع على تبيان الخيط الأبيض من الأسود حيال مَن سيدخل البيت الأبيض، وتالياً يغتنم ما قد يعتقده «فرصةً لن تتكرر» للذهاب بقسوة نحو «رأس الأخطبوط» في محور الممانعة، تساءلت أوساط مطلعة عما يمكن أن يُفضي إليه الاستنفارُ الدبلوماسي الإيراني الذي عبّرتْ عنه خصوصاً جولة عراقجي في المنطقة وصولاً إلى بغداد أمس، والذي استُشمّ منه أنه يَعكس محاولةً لفتْح الباب ولو مواربةً على مَخْرَجٍ صار يتطلّب واقعياً تَراجعاتٍ في لبنان وغزة تحدّ من الخسائر وتوقف تَمَدُّدها حتى إلى طهران نفسها.
ولم يكن ممكناً قراءةُ كلامِ عراقجي عن «أننا نتشاور مع المسؤولين بالمنطقة لمنْع الحرب الشاملة وبذلْنا جهوداً كبيرة لاحتوائها»، بالتوازي مع إعلان «لا نريد الحرب ولكن لا نخشاها ولا خطوط حمر لدينا في الدفاع عن شعبنا ونسعى لتحقيق السلام ووقْف النار في غزة ولبنان» إلا على أنه تعبيرٌ عن المحاولاتِ لتَدارُكِ إمكان جنوحِ نتنياهو نحو خياراتٍ جامحةٍ في ردّه على إيران قد تَجرُّها قسراً إلى صِدامٍ مكلف ستكون الولايات المتحدة في خندق واحد مع إسرائيل فيه، أقلّه دفاعياً في مرحلة أولى.
وأياً يكن منسوبُ وطبيعة الردّ على إيران، ترى الأوساطُ أن الوقائع الميدانية في لبنان والميزانَ العسكري بين تل أبيب والمحور الإيراني صار يجرُّ إلى استخلاصِ أن الأخير بات بين خياريْن أحلاها مُرّ: إما وقْفُ النزيفِ بما هو أبعد من الصمود في الميدان، كما يفعل «حزب الله»، عبر تنازلاتٍ تُحاكي الإطارَ الذي أصبح مرسَّماً لـ «اليوم التالي» لبنانياً والذي يحرص نتنياهو على «وصْله» بتسوية في غزة، وفق شروطه بالكامل، وإما خوض مخاطرة الصِدام الكبير الذي يضع المحور من رأسه إلى أذرعه في مرمى النار نفسه.
وتستخلص الأوساط أنه في حال «أفلتت» المنطقة من حرب شاملةٍ، فإنّ لا مفرّ لجبهة لبنان من «هبوطٍ اضطراري» ولو بعد حين على قاعدةٍ باتت واضحة المعالم ومنطلقها القرار 1701 (جعل جنوب الليطاني منطقة خالية من السلاح والمسلحين) والقرار 1559 (نزع سلاح حزب الله)، مع إمكان ترْك تطبيق الأخير لـ «نسخة لبنانية» اسمها الحرَكي الإستراتيجية الدفاعية التي تعني جعل سلاح الحزب وقرار الحرب والسلم، تحت إمرة الدولة، وأيضاً إيجاد أطر دولية لمراقبة المعابر البرية وتعزيز الرقابة البحرية والجوية بما يحول دون معاودة الحزب بناء ترسانته العسكرية (أي عملياً تطبيق القرار 1680).
1701 و1559
أما تنفيذ «خريطة الطريق» هذه فيبدأ عملياً بعد وقف النار (وتكون هي مرتكزاً له) ويشرف على تنفيذها رئيسٌ للجمهورية لا يشكل عنوان غلبة ولكنه بالتأكيد يعبّر سياسياً عن مرحلة لبنان ما بعد الحرب، وسط اقتناعٍ بأن «المفتاح والقفل» في الضغط لتطبيق هذه الخريطة سيكون ملف إعادة الإعمار.
وتعتبر الأوساط نفسها أن رئيس البرلمان نبيه بري باعتباره إن كل الكلام عن القرار 1559 كلام سياسي لأن الـ 1701 ألغى الـ 1559 (…) ومنذ 2006 لبنان يلتزم بالـ 1701 وهو القرار الوحيد الساري لذلك لا أحد يتحدث بالـ 1559، إنما يعبّر عن إدراك بأن الـ 1559 صار على الطاولة، مستغربة اعتبار بري أن هذا القرار «ألغاه الـ 1701» ومستدلة على ذلك بالجلسة التي يعقدها مجلس الأمن اليوم حول الـ 1559 ومناقشة الإحاطة نصف السنوية حول تنفيذه والتي تُقدم بانتظام منذ صدوره في سبتمبر 2004، كما بموقف وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن قبل يومين والذي استحضر هذا القرار كأحد مرتكزات التفاهمات التي تسعى بلاده لبلوغها في ما خص وقف حرب لبنان.
وفي انتظار الردّ الإسرائيلي وانقشاع الرؤية بإزاء المسار الدبلوماسي، حرص نتنياهو على المضيّ في استثمار الميدان لتحقيق ما أَمْكن من مَكاسب يُراكمها للحظةِ التسويةِ، وعلى قاعدة تدمير أكبر قدر من البنية التحتية العسكرية للحزب، وفرْض منطقة ميتة على الحدود يستحيل العيش فيها وتالياً انتشارُ الحزب عليها، في انتظارِ أن يكون لبنان ترجم مرتكزات «اليوم التالي» في ما خص مجمل وضعية سلاحه ونفوذه داخل المؤسسات.
وقد عبّر وزير الدفاع يواف غالانت، أمس، خلال جولة له على الجبهة الشمالية عن هذا الأمر بإعلانه أن «كل قرى الخط الأول في لبنان هدف لنا وندمرها واحدة تلو الأخرى، ولن نسمح لحزب الله بالعودة إلى القرى على الحدود»، لافتاً في الوقت نفسه إلى أنه لم يبق في أيدي الحزب «سوى ثلث الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى».
المعركة ضد «اليونيفيل»
في موازاة ذلك، كان نتنياهو يَمْضي في معركته ضد قوة «اليونيفيل» العاملة في الجنوب والتي بلغ أمس حدّ التوجه في بيان مصور إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، حض فيه على «إبعاد قوة الأمم المتحدة الموقتة عن الخطرِ على الفور».
وعلى وقع تأكيد 40 دولة تساهم في «اليونيفيل» دعمها الكامل لهذه القوة وحضها على حماية عناصرها، الذين أصيب 5 منهم خلال اليومين الماضيين، أعلنت «اليونيفيل» أن جنودها رصدوا صباح أمس، في بلدة رامية ثلاث فصائل إسرائيلية تعبر الخط الأزرق إلى لبنان، موضحة أنه «بينما كان جنود حفظ السلام في الملاجئ، قامت دبابتان من طراز ميركافا تابعتان بتدمير البوابة الرئيسية للموقع ودخلتاه عنوةً».
كما أبلغ جنود حفظ السلام في الموقع نفسه عن إطلاق رشقات نارية عدة على مسافة 100 متر شمالاً، «ما أدى إلى انبعاث دخان كثيف. ورغم ارتداء أقنعة واقية، عانى 15 جندي حفظ سلام من آثار ذلك، بما في ذلك تهيج الجلد ومشاكل في المعدة بعد دخول الدخان إلى القاعدة. وقد طلبنا من الجيش الإسرائيلي تفسيراً لهذه الانتهاكات المروعة».
وفي حين ترافقت الاعتداءات مع تعرض إسرائيلي للجيش اللبناني الذي جُرح 3 جنود منه بعد سقوط صاروخ من مسيرة قرب آليتهم في بلدة برج الملوك، اشتدّت المواجهات الميدانية الضارية بالتوازي مع نشر الجيش الإسرائيلي فيديو لِما ذكر انه أسر أحد عناصر الحزب في الجنوب.
وفي هذا الوقت، عكست الإصابات في صفوف الجيش الإسرائيلي والتي بلغت أمس فقط باعترافه 28، مستوى المعارك الطاحنة التي تجري وبعضها تلاحُمي ومن مسافة صفر كما حصل في بليدا (القطاع الأوسط) التي تقدّم إليها هذا الجيش، وأيضاً في عيتا الشعب.
وامتدت هذه المواجهات نحو القطاع الغربي خصوصاً رامية وعلما الشعب والضهيرة حيث أوردت «الوكالة الوطنية للإعلام» أن الجيش الإسرائيلي نسف مسجد البلدة «الذي يبعد نحو 200 متر عن الحدود مع فلسطين المحتلة، بعد تسلل محدود من موقع الجرداح المعادي، بالتوازي مع قصف هستيري وغارات لم تهدأ على الناقورة أيضاً ومارون الراس، غداة استهداف مروع لسوق النبطية التجاري أدى إلى تدمير متاجر ومبان بأكملها، في ضربة لم يسبق أن حصلت حتى إبان حرب يوليو 2006».
وليل أمس، قتل 3 إسرائيليين وجرح أكثر من 40 بهجوم بطائرة مسيرة جنوب مدينة حيفا، جروح 9 منهم على الأقل، خطيرة.
ونقلت إذاعة الجيش عن مصدر، أن «حزب الله» نجح في خداع منظمة الدفاع الجوي وأطلق رشقة صاروخية للتغطية على المسيرة.