تطمينات أميركيّة بخفض الضّربات على الضّاحية!
ثلاثة مسارات متوازية تحكم المشهد اللبناني: العمليات العسكرية، وتحديداً تلك التي يشهدها البرّ في الجنوب اللبناني، المساعي الدولية والأممية لإحداث خرق في جدار المواجهات إفساحاً في المجال أمام فرض وقف لإطلاق النار، والمشاورات الداخلية الباحثة عن “قشّة” توافُق قد تسمح بإنجاز الاستحقاق الرئاسي.
كما كان متوقّعاً، لم تخرج الجلسة الرابعة لمجلس الأمن، التي خصّصت لمناقشة الوضع في لبنان، عن السياق المتوقّع لها: صفر نتيجة. إذ تقول مصادر دبلوماسية معنيّة لـ”أساس” إنّ من المبكر جداً الحديث عن صياغة مشروع قرار أممي يعلن وقف إطلاق النار، على الرغم من جرعة التفاؤل التي أطلقها رئيس حكومة تصريف الأعمال منذ يومين، كاشفاً عن اتصالات دبلوماسيّة تهدف للسّعي مجدّداً إلى وقف إطلاق النّار، إلا أنّ الخلافات داخل أروقة مجلس الأمن (بسبب التشدّد الأميركي) تحول دون صناعة قرار في الوقت الراهن.
تلفت المصادر نفسها إلى أنّ مجلس الأمن سيكثّف من اجتماعاته في الفترة المقبلة من دون أن يكون بصدد اتّخاذ قرار جدّي في وقت قريب، لا سيما أنّ قوات اليونيفيل صارت موضع استهداف شبه يومي من جانب إسرائيل، في محاولة لا تُفهم إلا أنّها لـ”تطفيش” هذه القوات ودفعها للتراجع إلى عمق الجنوب اللبناني.
فرنسا تعمل لقرار دوليّ جديد
تضيف المصادر أنّ باريس، وهي “حاملة القلم”، تكثّف جهودها في أروقة مجلس الأمن لاعتباريْن أساسيَّيْن:
– الأوّل: يهدف إلى حماية موقعها ومنع تجاوزه، ولهذا تترك المبادرة لها.
– والثاني: هو العمل على تقريب وجهات النظر والتقاط الفرصة لصياغة قرار دولي من شأنه أن يرعى مرحلة اليوم التالي في لبنان.
تكشف المصادر أنّ مداولات الجلسة الأخيرة شهدت اقتراحاً لإصدار بيان صحافي يصدر عن مجلس الأمن يشمل إدانة التعرّض لقوات حفظ السلام الموجودة في الجنوب اللبناني، اليونيفيل. لكنّ المندوب الجزائري اعترض على حصر الإدانة بالقوات الدولية بينما شهدت الساعات الأخيرة حصول أكثر من مجزرة بحقّ مدنيين عزّل. ولهذا تمّ التراجع عن فكرة إصدار بيان.
من هنا يرجَّح صدور بيان تضامنيّ تتلوه مجموعة الدول العشرة المنتخبة (غير الدول الخمسة الدائمة العضوية)، يعبّر عن قلق المجموعة ممّا يتعرّض له المدنيون والقوات الدولية، لكنّه لا يصل إلى مستوى الإدانة.
بالنتيجة، يبدو انكفاء مجلس الأمن عن الاتفاق على إصدار قرار أممي، دليلاً قاطعاً على أنّ الكلمة لا تزال للميدان، وأنّ المساعي الدولية لم تنضج بعد، وأنّ الإدارة الأميركية لا تزال تغطّي إسرائيل في عدوانها.
أميركا تخفّض التّصعيد على الضّاحية
في هذا السياق، كانت لافتة الصحوة الأميركية على المشهد اللبناني (زارت الرئيس برّي منذ أيام السفيرة الأميركية ليزا جونسون التي لم تجرِ أيّ لقاء رسمي منذ عودتها من إجازتها)، من خلال الاتّصالين اللذين أجراهما وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بكلّ من رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، بالتوازي مع إطلالات الموفد الرئاسي آموس هوكستين الإعلامية بعد غياب عن السمع طوال الأسابيع الماضية.
وفق المعلومات، أبلغت الإدارة الأميركية خلال الساعات الأخيرة المسؤولين اللبنانيين حرصها على فرض نوع من خفض التوتّر على إسرائيل، لا سيما لجهة منعها من استهداف العاصمة بيروت وإيقاع مدنيين، وتخفيف الضربات على ضاحية بيروت الجنوبية. فقد تراجعت حدّة القصف في الأيام الماضية، وصولاً إلى توقّفها تقريباً ليل الجمعة – السبت. في المقابل، فقد شهد الجنوب والبقاع قصفاً عنيفاً فيما انضمت مناطق أخرى لقائمة الاستهدافات.
مع العلم أنّها ليست المرّة الأولى التي تتولّى فيها واشنطن تقديم ضمانات أمنيّة إلى السلطات اللبنانية سرعان ما تضرب بها إسرائيل عرض الحائط. فيما شهدت الساعات الماضية قصفاً عنيفاً على الجنوب والبقاع وكأنّه محاولة للتعويض عن خفض منسوب الضربات على الضاحية.
أكثر من ذلك، بات التعامل من جانب من اللبنانيين، مسؤولين ومواطنين، مع مواقف الإدارة الأميركية الحالية وتطميناتها، بكثير من الشكوك، بدليل كلّ سلوك واشنطن مع أحداث غزة، وبدليل أنّ السفيرة الأميركية في بيروت كانت تقول في مجالسها قبيل اندلاع الحرب في لبنان أنّ التقديرات تتحدّث عن احتمال حصول اتفاق في غزة وفي لبنان بحلول شهر تشرين الأوّل!
في مطلق الأحوال، لا ضمانات أميركية أو تطمينات أو حتى تلميحات بقرب انتهاء الأعمال العسكرية.
اصطفافان… وكتلٌ وسطيّة
بالتوازي، لا يزال ملفّ رئاسة الجمهورية موضع اهتمام بارز، لا سيما من واشنطن، إذ حرص بلينكن في اتصالَيْه مع برّي وميقاتي على تأكيد ضرورة الإسراع في إنجاز الاستحقاق الرئاسي في أسرع وقت ممكن. وهذا ما يثبت أنّ واشنطن مقتنعة بحتمية حصول العملية الانتخابية قبل وقف إطلاق النار، خلافاً لموقف “الحزب” الذي عبّر عنه نائب الأمين العامّ الشيخ نعيم قاسم، الذي ترك البحث في التفاصيل لما بعد انتهاء العمليات العسكرية.
في الواقع، كشفت “شيفرة” المواقف حيال الاستحقاق الرئاسي أنّ ثمّة اصطفافين نقيضين، لكنّ كليْهما يراهن على الميدان للاستثمار في الرئاسة، ويفضّلان تأجيل البحث لما بعد تبيان حقيقة موازين القوى بعد وقف إطلاق النار.
– الحزب وبعض حلفائه من جهة.
– والمعارضة من جهة ثانية.
لكنّ في الوسط كتلاً نيابية تعتقد أنّ الوضع الداخلي لا يحتمل مزيداً من الرهانات قد تنتهي بمعادلة غالب ومغلوب تكون مدخلاً لصراعات جديدة، ومن الضروري المسارعة إلى ملء الشغور وانتخاب رئيس جامع قادر على مخاطبة المجتمع الدولي وإنتاج سلطة تنفيذية تتمتّع بصلاحيّات كاملة ومغطّاة من كلّ القوى السياسية تعمل على مواجهة كوارث الحرب وتداعياتها الخطرة.
وفق المعنيّين، فإنّ عدداً من الكتل الوسطية، مثل “تكتّل الاعتدال”، “اللقاء الديمقراطي”، “اللقاء التشاوري المستقلّ” وبعض “التغييريين”، مقتنعون بضرورة “خطف الاستحقاق”، اليوم قبل الغد، لكن ليس على قاعدة “رئيس حيّالا”، وإنّما رئيس بمواصفات توافقية، تُطمئن كلّ المكوّنات، ويمكنه اختراق حواجز الحصار العربي والدولي. ويحاول “اللقاء الديمقراطي” البحث عن آليّة تسمح بإنتاج اسم توافقي ويبلّغ الكتل التي يلتقيها أنّه يعمل كعنصر مساعد ومستعدّ لتقديم كلّ التسهيلات في سبيل تحقيق هذا الهدف.
وفق هؤلاء، فإنّ الممانعة التي يبديها “الحزب” حيال الأمر قابلة للنقاش وممكن معالجتها إذا تمّ إنتاج جوّ توافقيّ مبنيّ على ترشيح مقبول يشكّل ضمانة بالنسبة له. وهو ما يتيح العمل على إحداث ثغرة في هذا الجدار إذا ما تمّت معالجتها بهدوء. مع العلم أنّ الرئيس برّي لم يقفل الباب نهائياً، وفق “اللقاء الديمقراطي”، ولا يزال عند شرط وجود 86 صوتاً، وهو ما يحتّم العبور بممرّ “الحزب” الإلزامي، وهنا جوهر النقاش.