التهديد الإسرائيلي بفسخ “اتفاق الغاز”: حرب نفسيّة استباقيّة
على نحوٍ غير متوقّع، برز في سياق أحداث الأيّام الماضية تصريح وزير الطاقة الإسرائيلي، إيلي كوهين، الذي أعلن توجهه للبحث عن ثغرات تسمح بإلغاء اتفاق الغاز “الفاضح” الموقّع مع لبنان. كوهين، اعتبر أنّ الاتفاق كان “خطأ منذ البداية”، وهو ما يستلزم “إصلاحه”، من دون أن يوضح طبيعة البنود التي ستسعى إسرائيل إلى تعديلها.
بهذا المعنى، أراد كوهين الإيحاء بأنّ إسرائيل تتجه لاستثمار أو توظيف الضربات الأمنيّة والعسكريّة الأخيرة، من أجل فرض شروط جديدة على اتفاق ترسيم الحدود البحريّة بين لبنان وإسرائيل. وكان من الطبيعي أن يثير هذا التصريح زوبعة من السجالات، التي تساءلت حول أهداف كوهين من إثارة الشكوك باستدامة اتفاق حسّاس من هذا النوع.
كلفة إلغاء اتفاق الغاز
لم تكن صدفة أن تعلن شركة “إنرجيان” اليونانيّة البريطانيّة، صاحبة حق التشغيل والإنتاج في حقل “كاريش”، بدء الإنتاج بالتوازي مع التوصّل لاتفاق ترسيم الحدود في تشرين الأوّل 2022. فمن الناحية العمليّة، ترتبط عمليّات الإنتاج عادة بأكلاف استثماريّة ضخمة، ومن البديهي أن تحرص شركات استخراج النفط والغاز على تجنّب المخاطر الأمنيّة والقانونيّة التي تحيط بعمليّاتها.
أي بعبارة أخرى، كان اتفاق ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل شرط بدء عمليّات الإنتاج لدى الجانب الإسرائيلي، تمامًا كما كان شرط استكمال عمليّات التنقيب والاستكشاف لدى الجانب اللبناني. وإلغاء الاتفاق سيعني بديهيًا إلغاء جميع الضمانات التي سمحت بتشغيل الحقل طوال العامين الماضيين.
وإلغاء ضمانات تشغيل الحقل، لن يعني فقط عرقلة عمليّات الشركة المشغّلة وتلك المختصّة بتقديم الخدمات المُكمّلة. بل سيعني كذلك تهديد إمدادات مصادر الطاقة في الداخل الإسرائيلي نفسه. إذ من المهم أن نتذكّر هنا أن إمدادات حقل “كاريش” بالتحديد مختصّة بتأمين حاجة السوق الإسرائيلي المحلّي للغاز، بما في ذلك الغاز الموجّه لتشغيل محطّات الكهرباء وكبرى المجمّعات الصناعيّة. وفي الوقت الراهن، تتسم هذه الإمدادات بحساسيّة خاصّة، بعدما تحوّلت مصر،منذ صيف العام الحالي، من مصدّر إلى مستورد للغاز الطبيعي، بسبب الفجوة ما بين إنتاجها المحلّي وحاجتها، وهو ما يصعّب توريد الغاز بالأنابيب منها.
لكل هذه الأسباب، سيكون إلغاء اتفاق الغاز سببًا لإشكاليّات كبرى بالنسبة لإسرائيل، سواء بالنسبة لمصداقيّة الحكومة عند التعامل مع شركات الطاقة العالميّة، أو على مستوى توازنات سوق الطاقة المحلّي. وفي جميع الحالات، سيكون على إسرائيل في هذه الحالة استبدال الإنتاج المحلّي، الذي يتم توريده عبر الأنابيب، بالغاز المُسال الأكثر كلفة. ومن المعلوم أن كلفة توريد الغاز المُسال بالبواخر حاليًا سترتفع بشكل إضافي حاليًا، بسبب المخاطر الأمنيّة المحيطة بعمليّات الشحن البحري في حوض البحر الأبيض المتوسّط. أما توريد الغاز المُسال عبر البحر الأحمر، فسيحمل مخاطر أكبر بكثير، كما بات واضحًا ومعروفًا للجميع. هكذا، لن يكون قرار إلغاء الاتفاق نزهة عابرة بالنسبة إلى إسرائيل.
لا يملك لبنان ما يخسره
على المقلب اللبناني، لا تملك الدولة هنا الكثير لتخسره. فأعمال التنقيب والاستكشاف معلّقة أساسًا، منذ بدء العمليّات العسكريّة في جنوب لبنان قبل نحو سنة. وعلى امتداد البلوكات الحدوديّة، لا يوجد أنشطة استخراج أو إنتاج فعليّة، كي يخشى لبنان من انقطاع إمداداتها. بل وأكثر من ذلك، يمكن القول أن اتفاقيّة ترسيم الحدود نفسها أعطت إسرائيل ما تحتاجه لبدء الاستخراج من حقل كاريش، الذي ضمّه الترسيم إلى المنطقة الاقتصاديّة الخاصّة بإسرائيل، من دون أن ينال لبنان أي آبار تحتوي على كميّات أو احتياطات مؤكّدة من الغاز الطبيعي. وبذلك، يمكن القول أنّ إلغاء الاتفاق سيكون خسارة صافية للجانب الإسرائيلي، تمامًا كما حقق توقيعه ربحًا واضحًا له في السابق.
وفي جميع الحالات، بعد توقيع الاتفاق، سيكون على إسرائيل انتظار نهاية الحرب، ومن ثم المضي في مفاوضات جديدة لترسيم الحدود. وعلى هذا المسار أن ينتظر طبعًا التسويات السياسيّة اللبنانيّة المحليّة، لإعادة انتخاب رئيس للجمهوريّة، وتشكيل حكومة مكتملة الصلاحيّات.
وبعد المرور بكل هذا المسار، لن تملك إسرائيل تصوّرًا للإضافة التي ستحققها المفاوضات الجديدة، طالما أن المساحات الحدوديّة الموجودة حاليًا ضمن المنطقة الاقتصاديّة الخاصّة اللبنانيّة لا تحتوي أساسًا على مكامن وكميات تجاريّة مؤكّدة من الغاز الطبيعي. هكذا، ستكون إسرائيل دخلت في مسار عبثي لا يمكن أن يحقق لها أي قيمة مضافة على المستوى الاقتصادي.
الحرب النفسيّة الاستباقيّة
أمام هذا الواقع، ثمّة ما يشير إلى أنّ كوهين يحاول هنا القيام بحرب نفسيّة استباقيّة، في وجه حزب الله، الذي قد يحاول تجاوز “اتفاق الغاز” بعرقلة عمليّة الإنتاج في حقل “كاريش” نفسه. أي بصورة أوضح، يسعى كوهين لخلق انطباع مفاده أنّ إسرائيل نفسها غير راضية على الاتفاق، وهي تبحث أساسًا عن حجّة لإلغائه، في محاولة للجم حزب الله وإبعاده عن عمليّات حقل الغاز الحدودي. ومن خلال هذه الرسالة، يحاول كوهين أيضًا إقناع الحزب واللبنانيين أن الاتفاق القائم بات أساسًا لمصلحة اللبنانيّة، في ظل التوازنات العسكريّة المستجدة، ما قد يدفع الحزب لتجنّب تعطيله. وفي النتيجة يكون المُراد من تصريح كوهين عكس المُعلن تمامًا: تحييد اتفاق الغاز عن ما يجري الآن.
وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ إذاعة الجيش الإسرائيلي كانت قد أعلنت يوم أمس أنّ إسرائيل اعترضت طائرة مسيّرة كانت في طريقها إلى منصّة الحفر الموجودة في حقل “كاريش”. غير أنّ الكثير من المصادر الإسرائيليّة نفسها شكّكت في أن يكون الهدف هو حقل الغاز بالفعل. إذ أنّ قرار استهداف بهذا الحجم سيكون قرارًا سياسيًا كبيرًا، وبتأثير حاسم على الأحداث، ما يعني أنّ محاولة من هذا النوع لن يقتصر نطاقها على مسيّرة يتيمة يسهل إسقاطها. لذلك، رجّحت هذه المصادر أن يكون ما جرى مجرّد عمليّة استطلاعيّة بحريّة، لتعقّب الدفاعات الجويّة الإسرائيليّة الموجودة في البحر.