هل يتجاوز “الحزب” رجحان الكفة إلى الخسارة الكبرى؟

هل يتجاوز “الحزب” رجحان الكفة إلى الخسارة الكبرى؟

الكاتب: ابراهيم بيرم | المصدر: النهار
1 تشرين الأول 2024

بادر “حزب الله” في اللحظة التي أيقن فيها أن أمينه العام الاستثنائي منذ اثنين وثلاثين عاما السيد حسن نصرالله قد صار في عداد الشهداء، إلى الاعتصام بالصمت والغياب شبه التام عن الواجهة الإعلامية، إلا بحدود ضيقة جدا كان أبرزها بيان النعي الرسمي المقتضب ثم بيان آخر تلاه نائب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم.

هذا السكوت الذي تجلى في غياب كل الذين اعتادوا النطق بلسان الحزب هو بمثابة نهج اعتاد سلوكه كلما واجه صدمة كبرى أو مرّ في محطة صعبة، حتى إنه أصبح جزءا من شخصية الحزب، فكيف لا يكون أداؤه على هذا النحو وهو يقاسي آثار الصدمة الكبرى التي نزلت به بعد اغتيال قائده الأبرز؟
العالمون بطريقة تفكير الحزب يعرفون أن القيادة المعنية في مثل هذه الحال تنقسم إلى قسمين:

يتولى القسم الأول مهمة تحليل أبعاد الحدث الصادم وقراءة التبعات، فيما يكلف القسم الثاني مهمة إعداد خريطة الطريق إلى عملية الاستيعاب والرد وتهيئة البدائل عبر خطاب سياسي جديد وقرارات تنظيمية لسد الفراغات.

النهج عينه اتبعه الحزب عند اغتيال أمينه العام السابق عباس الموسوي عام 1992 في غارة نفذها الطيران الإسرائيلي على سيارته لحظة عبوره بلدة تفاحتا في ساحل الزهراني.

لكن الظروف الحالية مختلفة تماما. فحينها لم يكن قد مضى على تولّي الموسوي مهمة الأمانة العامة من سلفه الشيخ صبحي الطفيلي إلا سنة وبضعة شهور، ولذا كانت تجربته طرية وسريعة خلافا للتجربة الصاخبة والاستثنائية التي خاض غمارها السيد نصرالله حافلة بالأحداث والتحولات والتطورات. ويوم تسلّم الموسوي منصبه كان حضور الحزب في المشهد السياسي متواضعا وأقرب إلى حضورالوافد من الأطراف إلى المشهد السياسي في العاصمة بحثا عن مكان، مهما كان، خلافا لوضعه اليوم الممتد والمتشعب والمتجذر. والحزب لم يكن يومها يعلن كما اليوم أنه صانع معادلات داخلية وإقليمية، كما لم يكن له دائرة متضررين وكارهين بعدما غطس حتى أذنيه في صراعات الداخل ثم تقدم طوعا ليتنكّب الدور السوري بعد خروج القوات السورية من لبنان، فضلا عن عبوره الحدود اللبنانية مشاركا في صراعات الإقليم الدامية وخصوصا بعد “الربيع العربي”.

بناء عليه، نجح الحزب في شباط 1992 في استيعاب تداعيات اغتيال الموسوي، إذ سارع قبل مواراته في الثرى إلى إعلان اسم خليفته السيد نصرالله، بكل سلاسة، حرصا من قيادة الحزب على إظهار صلابته وتماسكه وعدم تأثير الضربة عليه.

أما الآن، فتكاد الظروف تكون مغايرة تماما والموازين انقلبت. فالتحديات أمام الحزب ضخمة والأعباء ثقيلة وآثار الإعياء والإنهاك بادية عليه. لذا مرت خمسة أيام بعد اغتيال نصرالله وقيادة الحزب غائبة عن المشهد، تاركة القاعدة الجماهيرية العريضة في حال إرباك وانعدام وزن بفعل ثقل الضربة التي خلفها غياب نصرالله الذي كانت إطلالاته تشكل عنصر اطمئنان لها.

بمعنى آخر، يبدو مستهولا غياب سيده ولا يكاد يلمّ شتات نفسه ليبدو متماسكا، إلى درجة أن مراسم دفن الرجل ومكان دفنه لم تحسم حتى الأمس، وخصوصا أن ثمة من يطالب بنقله إلى مدافن كربلاء ليكون قريبا من مقام الإمام الحسين، في حين أن هناك من يصمم على أن يدفن في لبنان وتحديدا في مدافن الضاحية (الشهيدين) ليكون على مقربة من مثاوي شهداء الحزب.

المعلوم أن السيد نصرالله كان في نظر مريديه فاتح عهد الانتصارات المتتالية المتحققة أو الموعودة، لكن ما جرى أن ثمة ندوبا أصابت هذه الصورة النمطية عنه في الشهرين الأخيرين، إذ لم يعد خافيا أن ثمة شعورا سرى بأن كفة ميزان الربح والخسارة جراء المشاركة في حرب إسناد غزة التي أطلقها نصرالله نفسه قبل عام على الحدود الجنوبية، يبدو راجحا نحو الخسارة، فالمواجهات طالت وكلّفت، والعدو لا يبدو فيها متهاونا، بل إنها بالنسبة إليه معركة مصير، لذا يضرب بلا هوادة.

بمعنى آخر، لم تبدُ إسرائيل “واهية كبيت العنكبوت”، وهو الوصف الذي أطلقه عليها السيد نصرالله نفسه، وقد استمرأه جمهور الحزب وتماهى معه إلى الحد الأقصى. والعدو لم يظهر تفوقا في قوة النيران التي في حوزته، بل إن الأهم هو هذا التفوق الاستخباري الذي أظهره، حيث بدا ملما بكل دقائق الجسم العسكري للحزب، ثم أتت أخيرا الضربات الأربع الكبرى المتتالية، لتجهز على رصيد الحزب وتبدد صورة الهيبة والقدرة على الرد المأخوذة والمختزنة عند جمهوره. فبدا الحزب كأنه مخترق أمنيا أو عاجز عن تلافي الاختراق، وفي المحصلة بدا مصدوما، وخصوصا أن كل التوعّد برد كبير على عدوانية إسرائيل كان دون المستوى المطلوب.

وبناء عليه، بدا الحزب بعد فقدان سيده الأبرز كأنه يوصد الأبواب حول نفسه وينطلق في رحلة إعادة نظر في كل ما يتصل به، سواء على مستوى الميدان حيث المنازلة مستمرة أو على مستوى البحث عن قيادة جديدة تملك أهلية تدارك الوضع واستعادة ما فقد. وعليه، ثمة من يضع آمالا على ذلك، في حين أن هناك من ذهب في رحلة تشاؤم انطلاقا من اعتقاد فحواه أن الحزب تعامل مع هذه الحرب تعامله مع حرب تموز 2006، وكأنه لم يشعر بمدى الجهد الإسرائيلي لابتكار طرق مواجهة متطورة أو بحجم ما بذلته تل أبيب من جهد استعدادا ليوم كهذا.

عموما، بات الحزب أمام واحد من احتمالين، فإما أن يكمل ما بدأه في الميدان، وهذا أمر بالغ الصعوبة، وإما أن يذعن لواقع وليس في مقدوره فرض الشروط، بل يتعين عليه أن ينظر مليا في شروط الآخرين.

من المبكر قراءة الدروس والعبر، لكن ثمة عبرة يتعين أخذها في الاعتبار، هي أن الصراع العربي – الإسرائيلي الذي انخرط فيه الحزب إلى أقصى الحدود، أثمانه باهظة، إذ إن نهاية تجارب عبد الناصر ومنظمة التحرير والعراق وليبيا لم يمر عليها الزمن.