السباق انطلق بين “الاستحقاق الرئاسي” وحرب “الإلهاء والإسناد”
ساد الإعتقاد أخيراً أنّه ليس وارداً الفصل عسكرياً بين الساحتَين الغزّاوية واللبنانية، ما لم يحصل ما هو استثنائي في توقيته وشكله ومضمونه. وإن شكّل اغتيال السيد حسن نصرالله ذروة ما هو متوقع من صدمات، فلم يَعُد مستبعداً أن ينفذ لبنان بالخرق الدستوري، نظراً للحاجة إلى إنهاء التباعد بين اللبنانيِّين وردم الهوة، بعدما جمعتهم بحور الدم وقوافل النازحين، من دون أن تنسحب إجماعاً على المضي في حرب «الإلهاء والإسناد» الذي كان وما زال مستحيلاً. وعليه، كيف يمكن تفسير هذه المؤشرات ودلائلها؟
لن يكون من السهل استيعاب كل التداعيات التي انتهت إليها العملية التي أودت بحياة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله وعدد من رفاقه، فالرجل لم يكن في موقع يعني جزءاً كبيراً من اللبنانيِّين والمواطنين الشيعة خصوصاً وحسب، إنما تحوّل في الأعوام القليلة الماضية مرشداً ومرجعاً وموجّهاً لمجموعة الأذرع التي بناها الحرس الثوري الإيراني من ضمن «محور الممانعة» في المنطقة، وعلى خلفية تبنّيها لمنطق المقاومة بديلاً من كل أشكال المواجهة الممكنة من ضمن مؤسسات وهيئات المجتمع الدولي، بمعزل عن مختلف القوانين والمواثيق الدولية، بما فيها القرارات الدولية التي يمكن أن تحفظ كيانات الدول ومصالح شعوبها.
وقد بلغت قوّتها ما يفيض على تحوّلها أجساماً تتفوّق على قدرات مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية، وربما الإدارية والمالية منها، كما هي الحال في لبنان. فيما تحوّلت في دول أخرى هي السلطة والدولة، كما على جزء من أراضي اليمن المحكوم من «الحوثيِّين» وحلفائهم، أو في العراق بعد تشريع قوات «الحشد الشعبي» والفصائل الرديفة التي تنافس في أدوارها وتسلّحها الجيش والقوى الأمنية الحكومية الأخرى.
على هذه الخلفيات التي يمكن أن تخضع إلى التشكيك في جوانب هامشية منها، من دون أن تلغي هذه الوقائع وما تكرّسه من حقائق، لن تقف تردّدات إغتيال السيد نصرالله عند حدود القوة العسكرية والشعبية في لبنان. ذلك أنّه ارتقى بعد استشهاده في نظر البعض إلى مرتبة تنافس المأساة التي انتهت إليها «موقعة كربلاء»، بالنسبة إلى فئات لبنانية، من دون أن تكون شاملة على مستوى الوطن.
وما زاد في إعطاء هذه الصورة «المتناقضة»، أنّ المجزرة التي انتهت إلى تغييب نصرالله عن المشهد العسكري قبل السياسي، أن نال مرتكبها شهادات التقدير في أكثر من عاصمة، والتي برّرها البعض بالتذكير بأنّ من طاولتهم موجة الإغتيالات متورّطون في هدر دماء مواطنيهم، كما قال مسؤولون أميركيّون، وصولاً إلى اعتبار وزير خارجيتهم أنتوني بلينكن «أنّ العالم أكثر أمناً بعد نصرالله»، كما بالنسبة إلى وزير خارجية ألمانيا الذي وضع منفّذ العملية في موقع «الحق بالدفاع عن النفس» مبرّراً جريمته.
ليس في ما سبق ما يعني اللبنانيِّين في مأساتهم المتعدّدة الوجوه، فما يخشاه أكثريّتهم اليوم أن تكون الحرب مستمرة، قبل أن تُثمِر المساعي المبذولة لإحياء مظاهر الدولة وإعادة تكوين سلطاتها التي تفتقد السلطة الإجرائية، لمجرّد فقدان رئيس الدولة الذي ألقِيَت على عاتقه مسؤولية تنظيم العلاقة بين السلطتَين التشريعية والتنفيذية، بالإضافة إلى القضائية والإدارية، عدا عن كونه القائد الأعلى للقوات المسلحة التي تخضع إلى سلطة مجلس الوزراء.
وما يزيد في الطين بلّة، أنّ ما يجري في بلد اقترب من مرحلة «الارتطام الكبير»، أنّ معظم مؤسساته فقدت قدرتها على إتمام واجباتها والقيام بالمهمات المنوطة بها على مستوى إدارة شؤون البلاد والعباد، بالنسبة إلى السلطة التنفيذية، وهي التي افتقدت ثقة مجلسٍ نيابيّ انتهت ولايته في 22 حزيران 2022 ولم تحظَ بثقة الجديد الذي مضى على انتخابه أكثر من عامَين وأربعة أشهر ولم يُنجز أولى مهمّاته بانتخاب الرئيس.
على هذه الخلفيات، اكتسبت المساعي الأخيرة التي يقودها رئيسا مجلس النواب نبيه بري والحكومة نجيب ميقاتي، للانخراط في مرحلة ترتيب وقف للنار في لبنان، بمعزل عمّا يجري في المنطقة، وفي مرحلة استبقت اغتيال نصرالله ورفاقه القياديِّين في الحزب، وذلك تأسيساً على ما قال به النداء ـ المبادرة التي أطلقها الرئيس الأميركي جو بايدن والفرنسي ايمانويل ماكرون، مدعومَين من الاتحاد الأوروبي ومجموعة الدول العربية والخليجية، بعدما بلغ العدوان الإسرائيلي ما يزيد عن حرب تجاوزت المواجهة مع «حزب الله» جانبَي الحدود إلى مختلف المناطق، وحصد ما حصده من شهداء وضحايا وجرحى بالآلاف منذ أن تمّ تفجير شبكتي النداء والتواصل اللاسلكي، وصولاً إلى الغارات الجوية الشاملة.
وبناءً على ما تقدّم، توقّفت مراجع سياسية أمام ما أعلنه ميقاتي بعد لقائه بري، باسمه وبالإنابة عنه، بتجديد التزام لبنان الرسمي بما نادى به النداء الصادر عن الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا والاتحاد الأوروبي ومجموعة الدول الحليفة، من خلال «تطبيق كل النقاط التي وردت فيه، ومنها وقف إطلاق النار فوراً من أجل بداية البحث في تطبيق القرار 1701 كاملاً». وهو أمرٌ يقود تلقائياً إلى إرسال الجيش إلى منطقة جنوب الليطاني ليقوم بمهماته كاملة بالتنسيق مع قوات حفظ السلام الدولية في الجنوب.
وما كان لافتاً أنّ ميقاتي نقل عن بري قوله إنّه جاهز لدعوة مجلس النواب إلى «انتخاب رئيس توافقي وليس رئيس تحَدٍّ لأحد، فور حصول وقف إطلاق النار»، وهو ما يطلق دورة سياسية ودستورية جديدة توفّر مخارج كثير من الأزمات المتوقعة في حال استمرّ خلو سدّة الرئاسة من شاغلها، واضعاً هذه الخطوات في خانة «الإيجابيات التي يجب أن نستفيد منها في أسرع وقتٍ من أجل استقامة المؤسسات الدستورية واكتمال عقدها وانتخاب رئيس جديد للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة».
وإلى أهمية هذه المواقف التي يمكن أن تؤدّي إلى كسر الجمود المحيط بالاستحقاق الرئاسي، لا يمكن فهمها وتفسيرها وتمنين النفس بإمكان القيام بها، إن تمّ الربط بينها وما جاء على لسان نائب الأمين العام لـ»حزب الله» الشيخ نعيم قاسم، الذي أكّد الاستمرار في حرب «الإلهاء والإسناد» لغزة في مواجهة العدو الإسرائيلي، في انتظار التثبّت لِمَن سيكون الفوز في هذا السباق بين الخيارَين الديبلوماسي ـ السياسي والعسكري، فيما أكّد وزير خارجية فرنسا من بيروت وجود فرصة للحلول الديبلوماسية للفصل في ما ينتظره اللبنانيّون بين الخيارَين في المرحلة المقبلة، لعلّ الفوز يكون لمصلحة لبنان وأمن أبنائه والوعد بقيام الدولة ومؤسساتها.