خاص- الحزب أمام حرب وجودية
ورّط “حزب الله” نفسه، وورّط معه اللبنانيين جميعاً في حرب ضروس، منذ اليوم الذي قرّر فيه خوض حرب “المساندة”. ولكن، كان في إمكانه، حتّى اللحظات الأخيرة، تفادي الانتحار. وقد عُرضت عليه فرص كثيرة للنجاة بنفسه وبلبنان، لكنّه استمرّ في قراره لا يتراجع عنه. وكلّما تأخّر الحزب في الدخول في التسوية، ازدادت الشروط الإسرائيلية، حتّى وصل الأمر إلى ما يجري اليوم من ضرب لبنية الحزب العسكريّة واغتيال لقادته على مساحة كل لبنان، وليس في الجنوب فقط.
في الأشهر الأولى كانت إسرائيل منشغلة بحرب غزّة، وكانت آلتُها العسكرية تركّز بقوّة على دحر حركة “حماس” وتدمير القطاع تمهيداً للدخول إليه. وكانت مطالبها من لبنان قليلة: فقط أوقفوا العمليّات أو حرب “المساندة”. ثمّ أتى الموفد الأميركي آموس هوكشتاين حاملاً عرضاً ينصّ على ترسيم الحدود البرّية، في مقابل انسحاب قوّات الرضوان بضعة كيلومترات عن الحدود. ولكن ربطه “المساندة” بحرب غزّة جعله يؤجّل البحث في العرض الأميركي، مع أنّه أبدى انفتاحاً عليه في البداية. ولكن مع تقدّم المعارك في غزّة، لم تعد تلّ أبيب مكتفية بشروطها السابقة، بل صارت تحدّد مسافات للانسحاب، ثمّ اشترطت سحب الأسلحة من جنوب الليطاني بالكامل مع ضمانات دولية حاسمة.
والآن، مع انتهاء المعارك الكبرى في غزّة، رفع بنيامين نتنياهو من سقف شروطه مرّة جديدة. وكانت الفرصة الأخيرة مع زيارة هوكشتاين لإسرائيل الأسبوع الفائت، حيث حاول إقناع المسؤولين بتحاشي توسيع الحرب، وأوصل رسائل إلى الحزب تنصحه بالرضوخ، وإلّا لن يكون في إمكان الولايات المتّحدة أن تفعل شيئاً مع نتنياهو المصرّ على جعل لبنان ضمن الأهداف الرئيسية. وعندما لم يوفّق هوكشتاين في مهمّته، غسل يديه وسافر، مع توصية بتحاشي المدنيّين قدر المستطاع. ولم يسع واشنطن إلّا أن تؤكد دعم إسرائيل للدفاع عن نفسها، وأرسلت من جديد إلى المتوسّط حاملة الطائرات ترومان.
ولكن، الخطير أنّ إسرائيل رفعت من جديد سقف شروطها. وتبيّن من الغارات والعمليّات أنّها لن تكتفي بضرب مواقع الحزب ومخازن أسلحته في الجنوب، بل وسّعت غاراتها إلى البقاع، حيث تعتقد أنّ الحزب يحتفظ بالقسم الأكبر من ترسانة الأسلحة الدقيقة، كما أنّ المنطقة مفتوحة على سوريا وطرق الإمداد التي تأتي منها الصواريخ. ولم تكتفِ بذلك، بل سبق أن نفّذت عملية كوماندوس في معمل لتصنيع الصواريخ في مصياف السورية، حيث استحوذت على وثائق مهمّة، قبل أن تلغّم المصنع وتفجّره.
إذاً، الهدف الذي أعلنته إسرائيل من حربها على لبنان هو إعادة السكان إلى منازلهم بأمان. وبات معنى الأمان بالنسبة إليها، ليس فقط إبعاد العناصر والأسلحة إلى شمال الليطاني، بل تجاوز ذلك إلى تدمير الصواريخ الثقيلة والدقيقة المخزّنة في الجنوب والبقاع وعرقلة خطوط الإمداد. وهذا يعني أنّ الحزب بات أمام حرب مصيريّة أو وجوديّة، إذا جاز التعبير. فاستمرار الاستهدافات الإسرائيلية على هذا المنوال، سيؤدّي إلى إضعاف الحزب وضرب جزء كبير من ترسانته العسكريّة. وليست قدرات الحزب بمستوى يؤهّله لمنع العمليات ضدّ مواقعه وسلاحه، حتّى لو استمرّ في قصف المناطق داخل إسرائيل.
وعمليّاً، بات الحزب في حاجة إلى دعم “محور المقاومة” ليتمكّن من الصمود. ولكن من يراقب تصريحات إيران والمواقف “المسالمة” التي أطلقها الرئيس الإيراني مسعود بزكشيان، لا يتوقّع تدخّلاً إيرانياً لدعم حليفه اللبناني. لا بل يبدو أنّ طهران تمهّد الطريق لاستئناف المفاوضات النوويّة.
المعروف عن إيديولوجية “حزب الله” أنه لا يستسلم بسهولة، وقد يستمرّ إلى آخر نفس. ولكن ثمن ذلك إضعاف بنيته العسكرية، وسقوط عشرات القتلى والجرحى وتدمير القرى والمنازل. أمّا الجانب البراغماتي الذي يتمتّع به الحزب وإيران فيدعو إلى التراجع التكتيكي، كما ارتأى في أيّ حال المرشد علي خامنئي. ولكن السؤال الذي يختصر المشهد هو: هل ستعطي إيران الضوء الأخضر لذراعها اللبنانية من أجل النزول عن الشجرة، أم سيبقى لبنان ومعه الحزب وقوداً للمفاعلات النووية الإيرانية؟