توقيف رياض سلامة والسؤال عن USB صندوقه الأسود

توقيف رياض سلامة والسؤال عن USB صندوقه الأسود

المصدر: الراي الكويتية
4 أيلول 2024

على طريقة «صَدِّق أو لا تُصَدِّق»… جاء الوقعُ الصاعق لتوقيفِ حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، أمس، بعد استجوابه في قضية اختلاس أموال وتبييضها، في تَطَورٍ هو الأول من نوعه في تاريخ «بلاد الأرز»، وسرعان ما فجّر أسئلةً عن سرّ مغادرة القضاء مربّعَ التردّد بإزاء «ملفاتٍ متسلسلةٍ» حطّتْ تحت أقواس غيرِ مَحكمةٍ في أوروبا واستدعت عقوباتٍ (أميركية وكندية وبريطانية) على الرجل الأقوى الذي أمْضى 3 عقود على رأس «المركزي»، كان في غالبيتها مكرَّماً وصاحب فضلٍ على الاقتصاد وبيت المال اللبناني، ليتحوّل في الأعوام الأخيرة منها مكروهاً من السواد الأعظم من اللبنانيين الذين أصابتْهم سهامُ الانهيار المالي – المصرفي – الاقتصادي الأعتى الذي عرفه بلدٌ منذ العام 1850.

ولم يكن جفّ بعد حبر القرار القضائي الذي اتخذه النائب العام التمييزي القاضي جمال الحجار، بتوقيف سلامة في ملف شركة «أوبتيموم» والعقود التي أبرمت بينها وبين مصرف لبنان لجهة شراء وبيع سندات خزينة ولشهادات إيداع بالليرة وحصولها على عمولات ضخمة، ولا خَفَتَ وهجُ صور «الحاكم» يُنقل إلى مقر قوى الأمن الداخلي لاحتجازٍ احترازي مفاعيله الأوّلية أربعة أيام، حتى تطايرت تشظياته في مختلف الاتجاهات وسط استجرار عامل «الصدمة» لدى الرأي العام اللبناني مجموعةَ علاماتِ استفهام تجاوزت سريعاً الحَدَث في ذاته لتتناول «كيف» و«هل يُعقل» و«لماذا الآن»… وهل يَصمد «التوقيف» أمام «ورقة احتياطٍ ذهبية» كان أُعلن أن سلامة يحتفظ بها على شكل «فلاش ميموري» USB سبق أن أرسلها إلى الخارج وفيها أسرار عمله «في حال حدوث شيء سيّئ له».

وهكذا تَشابَكَ القبضُ على مَن يملك مفاتيحَ «الصندوق الأسود» لمرحلةٍ مديدةٍ من تاريخ لبنان انطبعتْ بالوصاية السورية (حتى العام 2005) وتفكُّك الدولة وسيادة الفساد وصولاً إلى الانهيار المروّع (من خريف 2019) مع تساؤلات عما إذا كان سقوط «الحاكم» سيفتح «صندوق باندورا» هذه الحقبة وحاكميها والمتورّطين فيها، وسط تقديرٍ لاح من خلف غبار الخطوة القضائية النوعية بأنها ربما تكون مرتبطة بحاجة بيروت لإثبات «حسن سلوكٍ» في سِباقها مع الوقت القصير لتَلافي إقدام مجموعة العمل المالي الدولية (فاتف خلال سبتمبر الجاري) على إدراج «بلاد الأرز» ضمن القائمة «الرمادية» التي تضم البلدان غير المتعاونة بالكامل في الاستجابة لمعالجة أوجه القصور في مكافحة غسل الأموال والفساد وتمويل الإرهاب.

وفي حين أعلن القاضي حجار بعد قراره أن «الخطوةَ القضائية التي اتُخذت بحق سلامة هي احتجازٌ احترازي ومفاعيلُها لمدة أربعة أيام على أن يُحال في ما بعد من قِبل استئنافية بيروت على قاضي التحقيق الذي يستجوبه ويتخذ القرار القضائي المناسب بحقه»، لافتاً إلى «أن من ضمن هذه الإجراءات قد تكون مذكرة توقيف وجاهية»، فإن تشكيكاً «مَشروعاً» برز في «الخطوة التالية» عقب «القبض المثير» على «الحاكم» السابق بشبهات اختلاس تفوق 40 مليون دولار، لاسيما بعدما كان شقيقه رجا أوقف لنحو شهرين من القضاء (في 2022) في تهمٍ بالإثراء غير المشروع وتبييض الأموال مع شقيقه، ثم أُفرج عنه لقاء كفالة مالية كانت الأضخم في تاريخ لبنان.

وكان سلامة حضر أمس، إلى قصر العدل من دون مرافقة تُذكر للاستماع إليه من القاضي حجار بشأن ملف «أوبتيموم» إنفست – وهي شركة لبنانية تقدم خدمات الوساطة في الدخل وتعاملت مع البنك المركزي لشراء وبيع سندات الخزانة وشهادات الإيداع بالليرة – علماً أنها أول مرة يمثل فيها أمام القضاء منذ انتهاء ولايته في 31 يوليو 2023.

ومعلوم أن سلامة مدّعى عليه في قضايا أخرى تتعلق باختلاس أموال وتبييضها، وصدرت بحقّه مذكرة بحث وتحرٍّ تمّ بموجبها أيضاً منعه من السفر، وأن ملفّ «أوبتيموم» يعود إلى فترة ما بين 2014 و2018 ويرتبط بعمليات بيع مصرف لبنان لسنداتِ وشهادات إيداع بقيمة 8 مليارات دولار تم تضخيم عمولاتها واعتماد هوامش أعلى من المتفق عليها ومن نظام العمولات المعمول به في حالات مماثلة.

وكان سلامة (74 عاماً) حاكماً لمصرف لبنان منذ 1993، وبات موضع ملاحقة في 5 بلدان أوروبية على الأقل بتهمة الاستيلاء على مئات الملايين من الدولارات من المركزي اللبناني على حساب الدولة اللبنانية وغسل الأموال في الخارج وصدرت بحقه مذكرتا توقيف في فرنسا وألمانيا (الأخيرة سحبتها قبل نحو 3 اشهر).

وسبق أن خضع لجولات عدة من التحقيق في قصر العدل في بيروت في قضايا انتهاكات وجرائم مالية بعدما تقدّمت الدولة اللبناني بادعاء شخصي بحقه بجرائم الرشوة والتزوير وتبييض الأموال والإثراء غير المشروع والتهرّب الضريبي.

وفي 2022، جمّدت فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ أصولاً بقيمة 120 مليون يورو يشتبه بأنّ ملكيتها تعود لسلامة وكان بعد في منصبه.

وفي أول تعليق لرئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي على قرار التوقيف، قال لقناة «الحدث»، إن «هذا قرار قضائي ولن نتدخل فيه والقضاء يقوم بواجبه وجميعنا تحت سقف القانون»، فيما أعلن وزير العدل هنري خوري أنّ «القضاء قال كلمته ونحن نحترم قراره».

ومع القبض على «الحاكم» استُحضرت صفحات من تجربة القابض على «مفتاح» المركزي لأعوام وعهود، والمتوَّج بجوائز عالمية ولبنانية والمكرَّم في جامعات لبنان وصروحه العلمية والدينية، والذي كان تَفَوَّقَ بالتمديد المتلاحق له على رئيسيْ الجمهورية الممدَّدة ولايتهما، إلياس الهراوي واميل لحود، إذ تم التجديد له أربع مرات بموافقة الطبقة السياسية أجمعها.

وقد ظل سلامة ثلاثين عاماً في واجهةِ الحدَث المالي والاقتصادي، ولم يسبق لمصرفيّ أن حظي بهذه الفترة الزمنية من الحضور على الساحة السياسية، ولا أمْسكَ حاكمٌ بـ «المركزي» لمدةٍ هي عملياً «نصف عمره»، إذ أن مصرف لبنان تأسس في الأول من أغسطس 1963.

ومنذ أن تربّع على عرش «بيت مال» اللبنانيين لم يفارقه الحلم برئاسة الجمهورية، هو الذي تردد اسمه مراتٍ مرشّحاً من الصف الأول إلى أن تَكَسَّرَتْ أحلامه وهو الذي تصرّف، وفق البعض وكأنه ضابط الإيقاع الذي لا غنى عنه.

وثمة مَن توقف أمس عند مفارقةِ أن الرجل الذي أَتْقَنَ لعقودٍ السيرَ بين الألغام الكثيفة للواقع اللبناني، ربما يكون وَقَعَ في الشِباك وتُرك وحيداً إلا مِن دفتره الحاوي أسرار شخصياتٍ من كل الأطياف والاتجاهات، و«الصندوق الأسود» لتحطُّم الهيكل المالي – النقدي فوق رؤوس الجميع… فهل يكون ملاذه الأخير؟