خاص- الحرب المؤجَّلة!
كشف الهجوم الاستباقي العنيف فجر الأحد على مناطق واسعة في الجنوب، ثمّ الردّ المتزامن الذي نفذه “حزب الله” انتقاما ًلاغتيال فؤاد شكر، وما تلاهما من ردود فعل، جزءاً من النيّات المبيّتة لدى الجانبين. كما شكّل الهجومان اختباراً أوّليّاً لتوجّهات الطرفين، ولمدى اندفاعهما الحقيقيّ نحو الحرب أو التهدئة، بعيداً عن الحملات الإعلامية والحرب النفسيّة الدائرة.
وبدا الأمر كأنّه تنفيس للاحتقان الذي ساد منذ عمليّتي الاغتيال آخر الشهر الماضي، وانتظار الردّ عليهما، وما يمكن أن يؤدّي إليه ذلك من تفجير للتصعيد. وتبيّن بعد هجومي الأحد أنّ التوتّر تراجع إلى حدّ كبير، وأنّ أيّ تصعيد مماثل في المستقبل بات مرتبطاً بتنفيذ أحد الطرفين عمليّة كبيرة، تتجاوز حدود ما هو متعارف عليه.
هل هذه الصورة دقيقة؟ وهل هذا يعني أنّ الوضع سيعود إلى ما كان عليه قبل 30 تمّوز؟
في الواقع، تتعدّد القراءات لما جرى، وتختلف التقديرات لما ستكون عليه المرحلة التي ستلي. ولكن، هناك بعض الوقائع التي يمكن البناء عليها.
بالنسبة إلى الحزب، من الواضح أنّه يتجنّب اندلاع حرب كبيرة. فهو أعلن هذا الموقف منذ البداية. وظلّت عمليّاته المحسوبة أكبر دليل إلى ذلك. وحتّى بعد قيام إسرائيل باغتيال شُكر، انتظر الحزب 25 يوماً قبل أن ينفّذ ما وصفه بأنّه جزء من الردّ، والذي أتى بمفاعيل لا تستثير تلّ أبيب وتدفعها إلى توجيه ضربات خارج “المألوف”. فهو اعتبر أنّه نفّذ انتقامه، فيما اعتبرت إسرائيل أنّها استبقت العملية، وعطّلت قسماً كبيراً منها. وعليه فإنّ الجانبين يتصرّفان كأنّهما رابحان في هذه المرحلة. حتّى أنّ الأمين العام للحزب حسن نصر الله “طمأن” اللبنانيين إلى أنّ في إمكانهم أن يرتاحوا الآن وأن يتنفّسوا الصعداء ويعودوا إلى منازلهم، لأنّ الردّ انتهى في هذه المرحلة.
ومع تنفيذ الحزب انتقامه منفرداً، تكرّس فصل الردّ من الجانب اللبناني عن الردّ الإيراني المزمع على اغتيال اسماعيل هنيّة. وهذا الأمر يريح لبنان من تبعات أيّ عمليّة إيرانية مقبلة، ويترك لطهران اختيار شكل الردّ وتوقيته بمعزل عن الجبهة اللبنانية.
ولكن، إذا كان نصر الله قد اعتبر أنّ في إمكان اللبنانيّين أن يرتاحوا قليلاً الآن، فهذا إعلان من جانب واحد. فمن قال إنّ إسرائيل تعيش على إيقاع الحزب، وتقرّر التهدئة والتصعيد تبعاً لهذا الإيقاع؟
في الواقع، يبدو من الوهلة الأولى، أنّ توقيت تنفيس الاحتقان الآن يناسب الطرفين. حتّى أنّ البعض رسم سيناريوات لكيفيّة حصول الهجومين المتزامنين، بما يوحي أنّ هناك “مسرحية” ما لتمرير الردّ، وحفظ ماء الوجه لكلّ من تلّ أبيب والحزب في آن.
وقد أكّد رئيس الأركان الأميركي تشارلز براون أنّ مخاطر اتّساع رقعة الحرب تراجعت إلى حدّ ما، بعد تبادل إطلاق النار بين إسرائيل و”حزب الله”، في حين أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت أنّ “الحرب على الحزب لن تكون الآن، لكنّها آتية”. أمّا رئيس الأركان الإسرائيلي هرتسي هاليفي فشدّد على أنّ “المهمة واضحة، وهي إعادة سكّان الشمال إلى منازلهم بأمان وفي أسرع وقت”.
وإذا كانت إسرائيل قد ألمحت إلى نيّتها تأجيل الحرب الكبرى مع لبنان، فهذا لا يعني أنّ القصّة انتهت هنا. فبنيامين نتنياهو أكّد مراراً أنّه عازم على إنهاء خطر الحزب على شمال إسرائيل، سواء بالمفاوضات أو بالحرب. ولكن التأجيل يسمح أوّلاً بحسم الوضع على جبهة غزّة، ومن ثمّ التفرّغ لموضوع لبنان. كما أنّ إسرائيل ستستمرّ في أيّ حال في عمليّاتها التي تستهدف بنى تحتيّة وعسكريّة للحزب، وستواصل مسلسل الاغتيالات. وربّما هذا يحلّ على المدى الطويل محلّ الحرب الواسعة، ويؤدّي إلى الغاية نفسها.
وفي المقابل، يناسب تأجيلُ الحرب أيضاً “حزب الله”، الذي يعوّل على عامل الوقت والتغيير في أولويّات الاهتمامات الدولية والأميركية، من أجل العودة إلى الوضع الذي كان سائداً قبل 7 أكتوبر.
ولكن، هناك خيار ثالث أيضاً، هو خيار المفاوضات بهدف التوصّل إلى ترتيبات أمنية في جنوب لبنان. وهذا الأمر تريده إسرائيل ولا يرفضه الحزب. وهناك سوابق ناجحة تتمثّل في ترسيم الحدود البحرية، وما نتج عنه من حفظ الأمان لمنصّات استخراج الغاز في حقل كاريش. ولكن استمرار التصعيد في غزّة يمنع انطلاق هذا المسار الآن. وليس مستبعداً أن يعود الموفد الأميركي آموس هوكشتاين قريباً إلى بيروت وتلّ أبيب لاستطلاع إمكانات التسوية، أو على الأقلّ وضع المداميك الأساسية لها.