خاص- مسار الحرب في لبنان انطلق
من المنظور الإسرائيلي، لم يعد ملفّ لبنان الأمني مرتبطاً بتطوّرات المفاوضات الجارية حول الهدنة في غزّة. ولم يعد قرار الحزب وقف العمليّات العسكريّة فور انتهاء الحرب في القطاع، يعني بنيامين نتنياهو. وحتّى الردّ المنتظر على اغتيال القائد فؤاد شكر في الضاحية، صار منفصلاً، بالنسبة إلى إسرائيل، عن قرار الحسم على الجبهة اللبنانية، لمرّة واحدة وأخيرة، بحيث يتمّ إبعاد الخطر الذي يشكّله احتمال تنفيذ الحزب هجمات على غرار هجوم 7 اكتوبر.
فالعمليّة التي نفّذتها حركة “حماس” في ذلك التاريخ، وصفها نتنياهو بأنّها أكبر من هجمات 11 أيلول في الولايات المتّحدة. وتعهّد أن يحارب الحركة، كما حاربت واشنطن تنظيم “القاعدة”، ولاحقته إلى معاقله. فعملية “طوفان الأقصى” شكّلت خطراً وجوديّاً على إسرائيل، وزعزعت كلّ مفهوم استراتيجيّة الردع لديها.
ومن هنا، فإنّ نتنياهو لن يقبل، بعد عشرة أشهر من الحرب، وبعدما حقّقه من مكاسب، أن ينسحب الجيش الإسرائيلي من معبر فيلادلفي على الحدود مع مصر، ومن معبر نتساريم الذي يصل جنوب القطاع بشماله. إذ إنّ حصول ذلك، سيسمح للحركة بإعادة بناء قوّتها العسكرية، وتكديس ترسانة أسلحة في غضون سنوات قليلة.
لذا، تبدو المفاوضات التي تجري في كلّ من قطر ومصر محكومة بالفشل، ما لم تقبل الحركة بالشروط الإسرائيلية. وإذا ما بقيت الحركة على استراتيجيّتها المعروفة بعدم التراجع حتّى النفس الأخير، فهذا يعني أنّ وقف النار لن يتحقّق. وستتابع القوّات الإسرائيلية عمليّاتها، حتّى الإمساك بكامل القطاع والسيطرة على الأمن فيه وإرساء شكل الحكم الذي تراه مناسباً.
أمّا بالنسبة إلى لبنان، فالوضع أخطر بكثير على إسرائيل، ممّا كان عليه الوضع في غزّة. وقوّة الحزب تفوق بأضعاف قوّة الحركة. لذا، فإنّ نتنياهو لن يتراجع عن هدفه إبعاد خطر عناصر الحزب وسلاحه عن حدوده الشمالية. ولم يعد في إمكان الأمين العام للحزب حسن نصر الله، الذي قرّر إقحام لبنان في حرب مساندة، أن يخرج من هذه الحرب، ساعة يشاء، وأن تعود الأمور إلى ما كانت عليه، وكأنّ شيئاً لم يحدث.
ويتمهّل نتنياهو حتّى انتهاء المفاوضات الجارية حول التهدئة في القطاع، بسبب الضغوط الهائلة التي تمارسها عليه واشنطن. ولكن، بعد ذلك، فهو مستعدّ للتصعيد. ولن تكون الولايات المتّحدة قادرة على لجمه، لا بل أنّها قد تعطيه الضوء الأخضر، ولو مضطرّة، إذا ما فشلت المحادثات حول غزّة، ورفض الحزب الدخول في تفاوض حول انسحابه إلى ما بعد خطّ الليطاني.
ويستقوي رئيس الحكومة الإسرائيلية بالحشود الأميركية الضخمة في المنطقة. وقد وصلت إلى الشرق الأوسط حاملة الطائرات “يو أس أس أبراهام لينكولن” مع المدمّرات المرافقة لها، لتدعيم تعزيزاتها التي تتضمّن حاملة طائرات موجودة أصلاً. ولن تتردّد القوات الأميركية في الدفاع عن إسرائيل، في حال تعرّضت لأيّ هجوم من إيران.
وعمليّاً، يمكن اعتبار أنّ الحرب بدأت على لبنان، من حيث اتخاذ القرار على الاقلّ. وبالفعل، كثّفت إسرائيل عمليّاتها في اليومين الماضيين، من خلال استهداف مخازن أسلحة في عمق البقاع، واستكمال مسلسل الاغتيالات. ومع خروج اللعبة من قواعد الاشتباك، بات متوقّعاً تنفيذ عمليّات جديدة من نوعها، من حيث مكان الاستهداف، ونوعية الهدف. وسيستجلب ردّ الحزب ردّاً مقابلاً، قد يؤدّي إلى توسيع حلقة الاستهدافات، لتشمل مثلاً بنى تحتية ومرافق للدولة اللبنانية، أو مناطق سكنيّة. وعندها ستخرج الأمور عن السيطرة.
وربما أيضاً، تتّخذ العمليّات شكل حرب الاستنزاف الطويلة من الجانبين. وهذا لا يقلّ ضرراً على لبنان، عن الحرب الصاعقة. فطول أمد الحرب سيغرق البلد في أزماته الاقتصادية والسياسية أكثر فأكثر. وهناك من بدأ يتحدث عن احتمال عودة سعر الدولار إلى الارتفاع. وربّما يكون هذا من ضمن الضغط الاقتصادي الذي سيمارس على لبنان للقبول في النهاية بالتفاوض وتقديم التنازلات.
ولكن، من يدرس خيارات الحزب التي اتّخذها في مراحل سابقة من الصراع مع إسرائيل، يعرف أن ليس من شيمه التراجع بسهولة. فهو يظلّ يلعب على الحافّة، علّه يفرض وقائع جديدة تقوّي موقعه التفاوضي، وتسمح لإيران في الوقت عينه بالعودة إلى التفاوض المحتمل في الملف النووي من مركز قوّة.
ومع ذلك، المعروف عن الحزب أيضاً براغماتيّته الشديدة. فهو يعرف متى وكيف يتنازل للحفاظ على المكاسب، واقتناص الفرص لعقد التسويات في الوقت المناسب. ولكن التسويات المقبلة لن تكون شكليّة، وستتطلّب من الحزب تقديم تنازلات وضمانات. فهل يقدِم على ذلك سريعاً من أجل عدم تضييع ما بناه من نفوذ وسيطرة في الداخل اللبناني؟