خاص- إنه اليوم التالي
“سراج” رب عائلة من خمسة أفراد، يقطن مع عائلته في إحدى القرى الحدودية، انضم الى صفوف المقاومة الإسلامية في ثمانينات القرن الماضي دفاعًا عن أرضه وعائلته ضد المحتل الإسرائيلي في حينه. خاض معارك عدة ضد الاحتلال وصولًا الى التحرير عام 2000، ثم حرب تموز عام 2006. كما خاض معارك عدة مع رفاقه في سوريا بعدما أقنعوهم بأنهم في هذه الحرب يدافعون عن لبنان وليس عن نظام الرئيس السوري بشار الأسد. أصيب “سراج” مرات عدة إسنادًا لنظام دمشق قبل أن يستشهد إسنادًا لغزة بصاروخ إسرائيلي من طائرة مسيّرة. ترك “سراج” عائلته ورحل، ولكنه لم يرحل دفاعًا عن قريته التي أحبّ بل إسنادًا لقرية غزاوية سوّاها المحتل بالأرض.
“جواد” شاب في العشرينيات مقبل على الحياة، مفعم بالنشاط والحيوية. كل من عرفه أحبه بفعل حركته الدائمة وخدماته التي يغدقها على الأقارب والجيران والأصدقاء دون منّة أو حساب. أحب “جواد” ابنة الجيران لسنوات وبات يحلم معها بمنزل زوجي متواضع يغمر حبهما بالسعادة والهناء. التحق “جواد” بالمقاومة بعدما أقنعه شقيق خطيبته بالأمر، على أمل أن يلقى المساعدة المطلوبة لتحقيق حلمه المتواضع. إلا أن خبرته المتواضعة في القتال لم تسعفه، فسقط شهيدًا بقذيفة معادية في الأيام الأولى من الحرب، ليتحطم حلمه وحبيبته على جدران غزة المدمّرة.
“أبو حسن” شاب ثلاثيني يتيم الأب، يعيش مع أمه الصابرة وأشقائه وشقيقاته الخمسة في منزل متواضع تركه له والده. وهب “أبو حسن” حياته لأمه وإخوته وأخواته فتفرّغ لعائلته منذ ما قبل مراهقته فانكب على العمل في شتى المجالات على أمل أن يقي عائلته شر العوز. انخرط “ابو حسن” مع شباب الحي في صفوف المقاومة، فتحسّن وضعه الاجتماعي والمادي، وظل اهتمامه محصورًا بتنشئة إخوته وتعليمهم حتى لا يضطروا يومًا الى مواجهة ما واجهه بعد رحيل والدهم. في إحدى ليالي الشتاء المنصرم، نفّذ “أبو حسن” ورفاقه عملية ضد موقع حدودي معاد، لكنهم لم ينجحوا في العودة الى مركزهم بعدما رصدتهم طائرة معادية وانقضت عليهم. الغارة نفسها التي أصابت المجموعة المقاتلة أصابت بشظاياها المستقبلية عائلة كاملة كانت تصلي في كل يوم لسلامة معيلها وعودته سالمًا الى حضن الوالدة.
“ظريف” شاب في الأربعينيات من قدامى المقاتلين في صفوف المقاومة، وهو ظريف في كل شيء شكلًا ومضمونًا. لم يتزوّج ظريف ليكرس حياته لخدمة والديه المريضين منذ سنوات طويلة، وهما بحاجة الى عناية مستمرّة من أحد أفراد العائلة. تولى “ظريف” المهمة وكرّس لها حياته، الى جانب انخراطه في المقاومة، فيما أسس أشقاؤه وشقيقاته عائلاتهم وما عادوا قادرين على مساعدته في مهمته. انحصرت مهمات “ظريف” الحزبية دائمًا في قريته لأنه لا يقدر على الابتعاد عن المنزل لأكثر من ساعات معدودة، وكان له ما أراد. استمر هذا الوضع لسنوات حتى أشهر خلت عندما قصفت مقاتلة معادية مركزًا للحزب في القرية كان “ظريف” داخله فسقط شهيدًا مع اثنين من رفاقه. إلا أن الشهداء عمليًا كانوا خمسة، بعدما لم يبق لوالدي ظريف من يعتني بهما.
“فراس” شاب وسيم وطموح اعتاد تحقيق أحلامه بنجاح. منذ أشهر قليلة حقق فراس حلمه بالزواج من ابنة عمه التي أحبها وأحبته منذ الصغر، بحيث كانت العائلة في كل مناسبة منذ طفولتهما تقول إن عبير مخطوبة لفراس، حتى تكلل حبهما بزواج بسيط اقتصر على أفراد العائلة واستقرّا في إحدى غرف المنزل العائلي الكبير في قريتهما. منذ أسابيع قليلة فوجئت العائلة بفراس يدخل الى المنزل حاملًا طبقًا من الحلوى ليعلن للجميع نبأ حمل عبير بمولودهما البكر، فعمّت الفرحة في المنزل وامتدت الى منازل الجيران الذين توافدوا على وقع زغاريد أم فراس وشقيقته. إلا أن الفرحة لم تدم إلا أيامًا قليلة قبل أن يأتي من يبلغ العائلة خبر استشهاد “فراس” الذي لم يمتّع ناظريه برؤية باكورة حبه لعبير فتركهما مرغمًا وانتقل الى مكان آخر.
“وليد” شاب خلوق يساعد والده في منشرة العائلة في القرية ويتبادل الاحترام والمحبة مع كل من عرفه. انخرط وليد في مركز الإسعاف التابع للدفاع المدني في القرية على أمل تقديم العون لكل من يطلب المساعدة من سكان القرية والجوار. وهكذا كان. فقد كرّس وليد كل أوقات فراغه لمساعدة المحتاجين بحيث كان يقوم بجولة يومية على المرضى والمسنين، يقيس الضغط لهذا، ويحقن إبرة العلاج لذاك، ويؤمن الدواء غير المتوفر لذلك.. حتى كان بمثابة ملاك الرحمة لسكان القرية. أحبه الجميع وبادلهم “وليد” الحب بالحب والمعاملة الحسنة. استمر هذا الوضع لسنوات حتى انطلق وليد ورفاقه لإسعاف عائلة تعرضت لغارة معادية، فما كان من العدو الموغل في إجرامه إلا أن استهدف فريق الإسعاف فسقط “وليد” شهيدًا تاركًا وراءه العشرات من سكان القرية بأمس الحاجة لمساعدته.
..وهل ثمة من يسأل بعد عن اليوم التالي لهذه العائلات، ومثلها المئات على امتداد القرى الحدودية وغيرها؟