خاص- حرب التهويل

خاص- حرب التهويل

الكاتب: نبيل موسى
26 حزيران 2024

في 14 آذار 1978 نفذت إسرائيل “عملية الليطاني” وتمكنت في خلال أيام من احتلال الأراضي اللبنانية حتى نهر الليطاني واضعة للعملية هدفًا هو القضاء على التنظيمات الفلسطينية المسلحة وتدمير بنيتها التحتية للحد من هجماتها على شمال إسرائيل بعد إنشاء شريط حدودي آمن في المنطقة المحتلة. العملية الإسرائيلية جاءت بعد ثلاثة أيام من “عملية كمال عدوان” التي انطلقت من الجنوب وأدت الى مقتل 37 إسرائيليًا وجرح 76. بعد نحو ثلاثة أشهر أعلنت إسرائيل أن العملية نجحت في تحقيق أهدافها بعد انسحاب قوات منظمة التحرير الفلسطينية الى شمال الليطاني وتكوين قوات “اليونيفل” ونشرها على الحدود الدولية تنفيذًا للقرار 425، فسحبت معظم قواتها من المنطقة بعد تشكيل “جيش لبنان الجنوبي” الذي تكلف بتأمين الأمن في المنطقة أو بالأحرى بحماية إسرائيل من الهجمات الفلسطينية.

نقطتان أساسيتان لا بد من التوقف عندهما في “عملية الليطاني” التي نفذها 25 ألف جندي وضابط إسرائيلي واستمرت 7 أيام وأدت الى تهجير نحو 300 ألف لبناني من القرى الحدودية: الأولى أن أية إنذارات أو تهديدات لم تسبق العملية، بل على العكس لعبت إسرائيل على عنصر المفاجأة واستفادت منه الى أقصى الحدود. والثانية أن العمليات العسكرية ضد إسرائيل لم تتوقف نهائيًا، وإن خفت وتيرتها، بحيث لم ينجح الشريط الحدودي المحتل في تامين الأمن لشمال إسرائيل.

استمر الوضع على حاله حتى 6 حزيران 1982 تاريخ بدء الاجتياح الإسرائيلي للبنان بعد ثلاثة أيام من محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن شلومو أرغوف، التي اتهمت تل أبيب منظمة التحرير الفلسطينية بتنفيذها، علمًا أن التحقيقات اللاحقة أثبتت وقوف النظام العراقي وراءها. شارك في العملية 75 ألف جندي إسرائيلي مدعومين بأكثر من الف دبابة وسلاح جو لا يُقهر نجح في إسقاط 80 طائرة للجيش السوري في معارك جوية محدودة، فكانت خسائر إسرائيل في العملية التي استمرت حتى أيلول 376 عسكريًا. نجحت العملية في تحقيق أهدافها بعدما تم إخراج منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات مع 14 ألف مقاتل من بيروت الى تونس في 19 آب 1982.

النقطتان السابقتان لا بد من التوقف عندهما أيضًا: لم تعلن إسرائيل مسبقًا عن العملية التي كانت تحضّر لها قبل أشهر، كما لم تلجأ الى التهديد والتهويل الإعلامي فحافظت بالتالي على عنصر المفاجأة، وهو العنصر الاساس في العلوم العسكرية. أما النقطة الثانية فهي ان العملية العسكرية التي حققت أهدافها المباشرة لم تنجح أيضًا في تأمين الأمن لشمال إسرائيل على المدى البعيد بعدما تم تأسيس ميليشيا “حزب الله” التي حلت محل منظمة التحرير الفلسطينية، وأثبتت التطورات أنها باتت تشكل خطرًا أكبر على إسرائيل.

انطلاقًا مما تقدم، وإذا كانت الدول الفعلية تتعلم من تجاربها، وهي فعلًا كذلك، لا مفرّ من الوصول إلا الى استنتاج وحيد لما يحصل اليوم على الحدود الجنوبية، بعد أكثر من ثمانية أشهر على التحاق “حزب الله” بعملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها حركة “حماس” ضد إسرائيل في مستوطنات غزة وما تلاها من حرب تدميرية على القطاع.

فبالرغم من عاصفة التهديد والتهويل الصادرة كل ساعة عن مسؤولين إسرائيليين، يبقى الاستنتاج المنطقي الوحيد هو أن إسرائيل لا يمكن أن تكرر الخطأ نفسه للمرة الثالثة، بمعنى أن تقوم بعملية برية تحتل خلالها الأراضي اللبنانية وصولًا الى الليطاني لتحقيق الأمن في مستوطناتها الشمالية، لعدة أسباب أهمها أن مثل هذه العملية ستكون كلفتها عالية على الجيش الإسرائيلي لأن “حزب الله” ليس منظمة التحرير الفلسطينية، وتنظيمه وتدريبه وعقيدته ونوعية أسلحته لا تقارن بوضع منظمة التحرير عام 1982. أما السبب الثاني والأهم لعدم إمكان تنفيذ مثل هذه العملية، وبغض النظر عن الخسائر المتوقعة في الجانب الإسرائيلي في هذه الحرب،  أنها ستضع القوات الإسرائيلية المحتلة في مرمى عمليات الحزب وتعطيه شرعية إضافية داخليًا ودوليًا لمقاومة الاحتلال وتحرير الأرض، فضلا عن أنها لن تحقق الامن لشمال إسرائيل بفعل الصواريخ متوسطة وطويلة المدى التي يملكها الحزب والقادر على استخدامها من أي موقع على الأراضي اللبنانية.

في المقابل، لا تبدو حملة التهديد والتهويل التي يمارسها “حزب الله” ضد إسرائيل منطقية أيضًا بحكم تفاوت القدرات العسكرية بين الطرفين، فضلًا عن الدعم الأميركي والأوروبي وحتى العربي التي ستتلقاه إسرائيل في حال تعرضها لهجمات صاروخية موجعة من “حزب الله”. انطلاقًا من ذلك، فالصراخ على المنابر ومشاهدات الهدهد وبنك الأهداف.. لا تعدو كونها دعوات الى التفاوض على أمل إعادة عقارب الساعة الى الوراء والعودة الى ما قبل السابع من تشرين الأول.

في المحصلة تبقى كلمة السر في واشنطن وطهران اللتين فتحتا الخط الأحمر المباشر بينهما للمرة الأولى منذ أربع سنوات بعد اغتيال اللواء قاسم سليماني، وبالتالي فالحلول الدبلوماسية لا بد آتية، وإن كان أحد لا يستطيع تحديد توقيتها. فالحرب الموسعة ممنوعة، والحرب الإقليمية ممنوعة أيضًا في ظل انشغال الدول الكبرى ودول الإقليم باهتمامت أخرى تبدأ بالانتخابات الأميركية ولا تنتهي بالحرب الروسية على أوكرانيا. في الانتظار يستمر الوضع جنوبًا مشابهًا لحال الطقس، فيشهد ارتفاعًا في حرارة المعارك حينًا ليعود حينًا آخر الى معدلاته الطبيعية، في انتظار تصاعد الدخان الأبيض من المفاوضات عبر الخط الأحمر.