صرخة ليدا: النظام الصحّي اللبناني في قفص الاتهام بعد وفاة أم وجنينها
مر أكثر من 40 يوماً على وفاة ليدا روبير راشد، تلك المرأة التي كانت تأمل في استقبال مولودها الثاني بفرح وسعادة. اليوم، تحولت قصتها إلى صرخة استغاثة في وجه نظام صحي مترد ومهمل. قصة ليدا ليست مجرد حادثة عابرة، إنها انعكاس لأزمة صحية تعصف بلبنان، تضع حياة المواطنين على المحك، وتكشف عن فشل ذريع في تقديم الرعاية الصحية الأساسية.
ليدا، البالغة من العمر 35 عاماً، كانت تعيش في سن الفيل مع زوجها التركي الأصل وطفلتها التي تبلغ من العمر ثماني سنوات ونصف. فمنذ أن حملت بطفلها الثاني، كانت تتابع حملها بعناية تحت إشراف الدكتور بيار نخال في عيادته بجل الديب. كانت كل زيارة لها عبارة عن طمأنة جديدة بأن كل شيء يسير على ما يرام، وأن جنينها ينمو بصحة جيدة.
لحظات الخوف والقرارات الصعبة
في الثاني من نيسان 2024، وعند دخولها الشهر التاسع، زارت ليدا الدكتور نخال، الذي أكد لها أن وضعها جيد، وأن الولادة متوقعة في الأسبوع الأخير من الشهر. مع العلم أنها كانت ملتزمة بنظام غذائي صحي وتناول أدويتها، استعداداً لاستقبال مولودها الجديد بفرح وسعادة. عادت ليدا إلى منزل عائلتها وأخبرتهم بطمأنينة عن حالتها وحالة الجنين، واحتفلت يوم الأحد مع ابنتها الكبرى في مطعم بمناسبة قربانتها. لكن في اليوم التالي، لاحظت ليدا توقف حركة الجنين في بطنها، مما أثار قلقها.
فاتصلت بالدكتور نخال، الذي أخبرها بأنه لا يستطيع رؤيتها قبل الساعة الواحدة والنصف بعد الظهر. في ظل قلقها الشديد، قررت التوجه إلى مستشفى الأرز فوراً. وعند وصولها إلى المستشفى، أجرت القابلة القانونية صورة بالموجات فوق الصوتية وأكدت لها أن نبض الجنين قد توقف. لم تصدق ليدا ما تسمعه، كان الجنين حياً ونابضاً بالحياة قبل أيام قليلة فقط.
وصل الدكتور نخال سريعاً وأعاد الفحص ليؤكد الخبر المؤلم: الجنين قد توفي. حاولت أخت ليدا الحصول على تقرير الصورة للاستشارة مع طبيب آخر، لكن طلبها قوبل بالتجاهل. وبشكل مفاجئ، قرر الدكتور نخال أن تتم ولادة الجنين طبيعياً دون اللجوء إلى عملية قيصرية، مما أثار استغراب وقلق الأهل.
المأساة تتفاقم
أُدخلت ليدا إلى غرفة عادية، وبدأت رحلة الألم والمعاناة. في العاشرة والنصف صباحاً، وضعوا لها مصل وتحاميل وأدوية وطلقاً اصطناعياً. كان الأهل في هذا الوقت يتساءلون عن سبب عدم إجراء عملية قيصرية لابنتهم.
التفاصيل المؤلمة للحظات الأخيرة
بينما كانت ليدا تعاني من آلام الطلق الاصطناعي، استمر الأهل في التساؤل والقلق حول سبب عدم إجراء عملية قيصرية. عند الساعة العاشرة والنصف مساءً، أُنزلت ليدا إلى غرفة الولادة بعد أن بدأت تشعر بالمغص الشديد. حضر الطبيب حوالى الساعة الثالثة فجراً، حيث كانت ليدا تعاني من أوجاع لا تحتمل. أعطاها طبيب التخدير إبرة لتخفيف الألم، لكنه تفاجأ حين علم أن الجنين ميت.
كما حاول الأهل مراراً رؤية ليدا، لكن المستشفى رفض طلبهم، رغم سماعهم لصراخها من الألم. فجأة، طلب الطبيب من الأهل جلب وحدات دم عاجلة، قائلاً إن “الخلاص” قد تضرر وأن ليدا تحتاج إلى الدم بشكل فوري. جلب الأهل الدم بسرعة، ولكن الوضع استمر في التدهور.
ومع تزايد القلق، اقتحمت أخت ليدا غرفة الولادة لتكتشف مشهداً مرعباً: “كانت الغرفة ممتلئة بالدماء، ملابس الطبيب ملطخة بالدماء، وعلى الطاولة كمية من الأنسجة التي تشبه اللحم. كان الطبيب يمسك بيده قطعة منها”، وعندما سألته الأخت عن ماهيتها، أجاب بأنها “الخلاص”. نظرت إلى أختها ليدا ووجدت وجهها شاحباً بشكل مرعب، وعرفت أنها في حالة حرجة.
عند هذه اللحظة، طلبت القابلة القانونية من الأخت التوقيع على موافقة لإجراء عملية استئصال الرحم لوقف النزيف. شعرت الأخت بأن هناك شيئاً غير صحيح، ورفضت التوقيع على الإجراء العام، لكنها وافقت على استئصال الرحم فقط. رغم ذلك، استمر الطاقم الطبي في المحاولات اليائسة لإنقاذ ليدا، ولكن للأسف كانت قد فارقت الحياة.
فيما بعد، سمع الأهل أصوات خبط داخل غرفة العمليات. عند استفسارهم عن السبب، قيل لهم إن الصوت ناجم عن إغلاق الأبواب. لكن الحقيقة كانت أسوأ بكثير؛ كانوا يحاولون إنقاذ ليدا بعد أن فارقت الحياة، بإجراء الإسعافات الأولية. من ثم أخرجوا ليدا من غرفة العمليات إلى غرفة الإنعاش، حيث تفاجأ الأهل بأنها كانت فاقدة للوعي تماماً، وعينيها مغلقتان بشريط لاصق، مع تبرير غريب بأن هذا الاجراء بسبب التخدير.
ولكن الصدمة الكبرى كانت عندما اكتشفت العائلة أن الدكتور قد شق بطن ليدا من الخاصرة إلى الخاصرة. وكانت أرجل ليدا متورمة وتغير لونها إلى الأزرق، مما يدل على فداحة النزيف الذي تعرضت له. فكانت هذه المشاهد صادمة ومؤلمة، وأكدت للأهل أن ليدا عانت بشكل لا يوصف قبل أن تفارق الحياة.
الدعوى المرفوعة ضد الدكتور وتبعاتها
بعد هذه المأساة، قدمت عائلة ليدا دعوى ضد الدكتور في مخفر أنطلياس، مطالبة بالعدالة ومحاسبة المسؤولين عن هذه الكارثة الطبية. بعد أن وصلت الدعوى إلى نقابة الأطباء، استدعت النقابة أفراد العائلة للاستماع إلى أقوالهم والتجاوب معهم. ورغم هذه الخطوات، لم يصدر حتى الآن أي حكم قضائي ضد الدكتور، الذي لا يزال طليقاً ويمارس مهنته بحرية.
صمت يثير التساؤلات
في إطار محاولتها للوصول إلى الحقيقة وكشف ملابسات الحادثة المأسوية، تواصلت جريدة “الديار” مع الدكتور بيار نخال الذي كان مسؤولاً عن متابعة حالة ليدا وإجراء الفحوصات والولادة. رغم الجهود المبذولة للحصول على تعليق أو تفسير من الدكتور نخال حول ما حدث، رفض التعليق بشكل قاطع وأصر على أنه والطاقم الطبي قدما لها العناية اللازمة وأن القضية أصبحت بعهدة القضاء. هذا الصمت المطبق من قبله يثير المزيد من التساؤلات حول الإجراءات التي اتخذت والأسباب الحقيقية وراء هذه المأساة، ويزيد من حدة الشكوك والجدل حول مسؤولية الطاقم الطبي في هذه القضية.
خاتمة تثير التساؤلات: إلى أين يتجه النظام الصحي اللبناني؟
انتهت حياة ليدا وابنتها في ظل ظروف تعكس فشلاً كبيراً في النظام الصحي اللبناني. هذه القصة تفتح باباً واسعاً للتساؤلات حول مستقبل النظام الصحي في لبنان. كيف يمكن للحكومة والمسؤولين إصلاح هذا النظام وضمان عدم تكرار مثل هذه المآسي؟ كيف يمكن تعزيز الثقة بين المرضى والأطباء في بلد يعاني من فقدان الثقة على جميع المستويات؟
إن قصة ليدا هي نداء عاجل لإعادة النظر في النظام الصحي اللبناني. هل سيتمكن لبنان من تجاوز هذه الأزمة وبناء نظام صحي يلبي احتياجات مواطنيه بكرامة واحترام؟ أم أن المعاناة ستستمر في ظل التدهور المستمر؟
ما حدث لليدا وابنتها يجب أن يكون حافزاً للتغيير، لضمان أن يحصل كل مواطن على الرعاية الصحية اللائقة، بعيداً عن الأزمات والإهمال. يبقى السؤال مفتوحاً: هل سنشهد في المستقبل القريب نظاماً صحياً أفضل، أم أن هذه المآسي ستستمر في بلد يفتقر إلى أدنى مقومات الحياة الطبيعية؟