خاص- بلد التيك توك وإكس.. وتوابعها
يعيش لبنان منذ وقت غير قصير على وقع حالة افتراضية مرضية تبعده عن واقعه الأليم وتجعله غير قادر على معالجة مشكلاته. فالانهيار الاقتصادي غير المسبوق الذي ابتلع جنى عمر المواطن وحوّله فعليًا الى متسوّل على أبواب المصارف حتى وإن كان نظريًا يملك ملايين الدولارات، ظنه المواطن في حينه افتراضيًا بفعل البيانات والتصريحات اليومية التي كانت كلها تؤكد أن “الليرة بخير”، حتى وقعت الواقعة وتبيّن أن لا شيء ولا أحد بخير في بلد لم يعد هو أيضًا بخير.
ثورة 17 تشرين التي ظن المتظاهرون الذين شاركوا فيها افتراضيًا أنها اندلعت بسبب قرار حكومي برفع كلفة التخابر الخلوي بضع سنتات للدقيقة، فتبيّن لاحقًا على أرض الواقع ان أسبابها ودوافعها الداخلية والخارجية أبعد من ذلك بكثير، حتى وإن كان بعض أقطاب الساحات قد استفادوا منها ليدخلوا الى الندوة البرلمانية رافعين شارة النصر.
الحرب المستعرة في الجنوب التي بدأت في 8 تشرين الاول الماضي عند الحدود وظلت لفترة تحت سقف ما سُمي قواعد الاشتباك بين “حزب الله” وإسرائيل، ثم اتخذت منحى تصعيديًا حتى باتت تهدد لبنان كله، بدأت افتراضيًا بعد ساعات من عملية “طوفان الأقصى” لدعم غزة وإسنادها وإشغال الجيش الإسرائيلي لتخفيف الضغط عن القطاع، ليتبيّن بعد 7 أشهر أنها عمليًا لم تدعم غزة أو تساندها بل تقاسمت معها الموت والدمار، وأن الشهيد اللبناني الذي كان من المفترض أن يكون قد ارتقى على طريق القدس تبيّن أنه اغتيل على طريق منزله في إحدى قرى الجنوب بواسطة مسيّرة تلهو بها مجندة من وراء الحدود.
وبما أن الحالة الافتراضية تعمّمت حتى أصبحت حالة مرضية جماعية، طفت على سطح الأحداث مؤخرًا “عصابة التيكتوكرز” الافتراضية التي تنفذ جرائمها واقعيًا، وهي بالفعل عصابة إجرامية عابرة للحدود لم يشهد لها لبنان مثيلًا حتى في أحلك الظروف. سيطر الغضب على الشارع حتى اضطر الى الخروج لبرهة من عالمه الافتراضي ليرتطم بواقعه المرير وهو يتابع يوميًا جديد هذه العصابة القذرة من أسماء لمتورطين وتفاصيل تقشعرّ لها الابدان. وفي خضم الأخبار والتحليلات حول القضية، يظل السؤال الأبرز بلا إجابة: هل لعصابة مماثلة في لبنان ألا تكون محميّة بأحد رموز الفساد في السلطة أو المجتمع؟ السؤال مشروع في بلادنا، ولن تجيب عنه إلا نتائج التحقيقات في حال اكتمالها.
“عصابة التيكتوكرز” هزّت البلد ووصلت تردداتها الى أقاصي الأرض بواسطة “الانتربول” الذي استعان به القضاء لجلب عدد من المتهمين. ولكن ماذا عن “عصابات الإكس والتليغرام وفيسبوك وإنستاغرام” وغيرها من محطات العالم الافتراضي التي يرتادها معظم سياسيينا الفاسدين يوميًا في عملية غسل ممنهج لعقول الأتباع بكلام افتراضي لا يسمن ولا يغني عن جوع. وقد وصل الأمر بأحد أفسد السياسيين ليتحوّل الى مقدم برنامج يومي يخبرنا فيه عن إنجازاته ومشاريعه المستقبلية الطموحة، من دون أن يخبرنا ولو لمرة واحدة لماذا هو متهم بالفساد من أقوى سلطة مالية في العالم، أو لماذا لم يتقدّم باعتراض لدى هذه السلطة لإثبات براءته المزعومة.
وبتحويل البلد الى حالة افتراضية مرضية نجحت “عصابة إكس السياسية” المحميّة من الخارج في الإفلات من العقاب جراء أفعالها الجرمية اللا متناهية على مدى عقود. وفي الموازاة بدأ يتردّد في الكواليس الأمنية والإعلامية أن “عصابة التيكتوكرز”، التي لا يمكن إلا أن تكون محميّة من جهة أو مرجعية داخلية معينة لتتجرأ على تنفيذ جرائمها كمًّا ونوعًا، ستنجو رؤوسها أيضًا بأفعالها بعد أن تقدم للقضاء بعض “الأضحيات” لزوم استكمال التحقيقات وتعبئة الملف.
لا عجب في ذلك إن حصل، لأن عصابة اغتصبت شعبًا بكامله على مدى عقود لم تلق عقابها المفترض، فكيف بعصابة صغيرة حديثة العهد لم يتجاوز عدد ضحاياها مئات الأطفال؟