خاص- بلد للبيع.. بالتقسيط المريح
يُحكى عن أحد النبلاء الفاسدين المسرفين الذي خسر ثروته في الفسق والمجون والانجرار وراء شهواته التي لا تنتهي، فدعا معارفه وأصدقاءه الى حفل راقص كبير في قصره ليوهم الجميع بأن وضعه المادي جيّد وأن كل ما يقال عنه مجرّد شائعات. إلا أن الجميع كان يعرف الحقيقة. خلال الحفل اقترب أحد الظرفاء، وكان قبيحًا جدًا، من سيدة القصر الفاتنة ودعاها الى الرقص، فلبّت الدعوة باحترام شديد بلغ حد الكبرياء. أثناء مراقصتها راح الضيف يحدّث السيدة بأمور شتى، وهو يلاطفها برفق حتى راح يداعبها في أماكن حميمة. وما أن انتبهت السيدة الجميلة الى ما يحصل حتى سألت من يراقصها بلياقة يشوبها الغضب: ما بك يا هذا، ماذا أنت فاعل؟ فأجابها الظريف القبيح بصراحة تبلغ حد الوقاحة: سيدتي، أنت حقًا تعجبينني، فهل تقبلين أن تنامي معي مقابل عشر ليرات ذهبية؟ انتفضت السيدة المغناج غضبًا ووجهت للرجل القبيح صفعة مدوية، وقالت له: ألا تعرف مع من تتكلم؟ أنا سيدة القصر، وأنت تريدني مقابل عشر ذهبيات فقط؟ فأجابها القبيح الوقح والسرور يغمر قلبه لينعكس على وجهه: إذًا سيدتي اتفقنا على المبدأ، أما المبلغ فهو من التفاصيل القابلة للتفاوض.
في حالتنا، وبكل أسف، الرجل الوقح القبيح هو الاتحاد الأوروبي ممثلًا برئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين التي أتت الى الحفل الراقص في بيروت وراحت تداعب أركان المنظومة لدينا ممثلة برئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ورئيس مجلس النواب نبيه بري، حتى نجحت في الاتفاق معهما على المبدأ والتفاصيل في وقت واحد. والأدهى من ذلك أن الليرات الذهبية، أو اليورو، ستُدفَع بالتقسيط المريح على مدى أربع سنوات لضمان “الاستمتاع” بالصفقة لأطول فترة ممكنة، فيما يعيش النازحون السوريون سالمين غانمين في لبنان، بحيث يمكن أن يكون عددهم قد تضاعف لحين انتهاء “عقد المتعة” بين لبنان والاتحاد الأوروبي.
إنها حقيقة “الصفقة” التي تمّت على رؤوس الأشهاد ومن دون أن يرف لأركان المنظومة جفن. لقد أجّروا البلد مساحات مفروشة لأربع سنوات قابلة للتجديد، ما لم يتم في الأثناء التحضير لصفقة بيع يتم تمريرها قبل انتهاء مهلة عقد الإيجار، فيكون الفاسدون في البلد قد باعوا السيادة في البداية كمقدمة لبيع لبنان على طريقة التملّك بالإيجار التي تعتمدها الشركات العقارية عالميًا.
المؤسف في الأمر أن اللبناني لا يتعلّم من تجاربه، حتى لو كانت قد كلفته غاليًا. أو ربما لأن الدولة العميقة القابضة على رقاب الوطن والمواطن هي نفسها منذ عقود، وإن تغيّرت الأسماء والوجوه. في 3 تشرين الأول 1969 تنازل لبنان عن سيادته عندما وقّع الجيش اللبناني ومنظمة التحرير الفلسطينية ممثلة بياسر عرفات اتفاق القاهرة، فكان أن دخلت البلاد في حرب مدمّرة ولو بعد سنوات قليلة.
إلا أن المفارقة أن اتفاق القاهرة جاء تحت ضغط “العصا العربية” التي استُخدمت في حينه ضد لبنان لإرغامه على القبول بالاتفاق، حتى تتخلّص “دول الطوق” من ضغوط الفلسطينيين على أنظمتها، فرأت في لبنان الخاصرة الرخوة التي يمكنها من خلالها تجميع “القضية الفلسطينية” في مكان واحد، وإغداق الأموال عليها لإبقائها حيث هي وعدم تمدّد الأزمة الى بلدان أخرى. تم ذلك حتى العام 1975 حين انتفض الوطنيون في لبنان منعًا لتحوّل بلدهم الى وطن بديل للفلسطينيين وكانت حرب استمرت 15 عامًا.
أما اليوم فيبدو الوضع مختلفًا بالأسلوب وليس بالمضمون: حل السوري مكان الفلسطيني في المعادلة، واستُبدِل الكلاشنكوف بسلاح الديموغرافيا، والمساعدات العربية للاجئين الفلسطينيين تحوّلت مساعدات “أممية” للنازحين السوريين. أما العنصر الأساس الذي تغيّر في المعادلة فهو استبدال العصا العربية التي استُعملت ضد لبنان لإرغامه على توقيع اتفاق القاهرة بجزرة أوروبية ثمنها باليورو أسالت لعاب أقطاب المنظومة الذين يعرفون كيف يوصلون الى المواطن من الجمل أذنه.. إلا إذا اختلفوا على اقتسام الغنائم، وهذا نادرًا ما يحصل في ما بينهم.
ما حصل في السراي خطير.. وخطير جدًا لأن لبنان الرسمي اتفق مع المجتمع الدولي على المبدأ فيما التفاصيل قابلة للتفاوض. فإذا كان إيجار السنوات الأربع بمليار يورو، فكم يبلغ ثمن توطين السوريين والفلسطينيين؟ عندما تحدثت بعض المرجعيات عن مخطط للتوطين في مقابل شطب ديون لبنان وإعادة وضع البلد على السكة الصحيحة اقتصاديًا، رأى آخرون أن الأمر لا يعدو كونه تسويقًا رخيصًا لنظرية المؤامرة التي غالبًا ما تكون من باب التهويل أو الضغط للحصول على مكاسب داخلية. إلا أن ما حصل يطرح علامات استفهام كبرى حول ما اعتُبر نظرية المؤامرة، والأخطر انه قد يكون الحجر الأساس لحرب داخلية جديدة تنتظر لبنان لإجهاض هذه المؤامرة وإرجاع السوريين الى بلادهم، على غرار ما حصل مع منظمة التحرير الفلسطينية التي أُخرجت من لبنان بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 بعد 7 سنوات من اندلاع الحرب.
“صفقة المليار يورو” هي نموذج مطوّر من اتفاق القاهرة، وعلى مجلس النواب أن يسارع الى تشريع قانون برفضها ومنع الحكومة من إبرام أية اتفاقية مشابهة، حفاظًا على ما تبقى من السيادة الوطنية، وحتى لا يقع في الخطأ السابق الذي يرقى الى درجة الخطيئة حين انتظر حتى 21 أيار 1987 حتى أقر قانونًا يلغي اتفاق القاهرة بعد 18 عامًا من توقيعه.