خاص- واشنطن “تبيع” المسيحيين من أجل صفقة مع “الحزب”؟
في العام 1990، جدّدت الولايات المتحدة الوكالة لسوريا كي تدير لبنان. فانتهت الحرب بنفي ميشال عون إلى فرنسا وزجّ سمير جعجع في السجن. وانتفى حينها أيّ صوت معارض، إلى أن قرّرت الولايات المتحدة نفسها حشد الضغوط الدولية لدعم احتجاجات 14 آذار 2005 التي أدّت إلى خروج القوات السورية من لبنان.
أمّا اليوم، فربّما تعود عقارب الساعة إلى الوراء. وتدور الأحداث كمن يتابع فيلماً بمشاهد معكوسة. معارضو 14 آذار تغيّروا من زمان. طار سعد الحريري، وصمتَ وليد جنبلاط، وتفرّق المسيحيون.
لم يكن موجوداً في لقاء معراب السبت للتعبير عن الرفض لتفرد “حزب الله” بقرار الحرب، سوى جعجع والقواتيين ورئيس حزب الوطنيين الأحرار و”ممثلين” عن حزب الكتائب، وبعض الشخصيات المعارضة. حتى فارس سعيد لم يشأ الحضور. وكذلك فؤاد السنيورة وأحمد فتفت ومصطفى علّوش. وإذا كان البعض لم يشارك لأنه لا يريد إعطاء القوّات امتياز قيادة المعارضة، فإنّ أيّ طرف آخر لا يريد ولا يمكنه لعب هذا الدور. فزمن 14 آذار قد انتهى ودُفن وتحلّل.
ومع أنّ معراب خفّضت سقف اللقاء، واضعة إيّاه تحت عنوان تنفيذ القرار 1701، فإنّ المخاوف الحقيقية لدى القوّات تكمن في رائحة صفقة تُرسم مع “حزب الله”، ستكون من دون أدنى شكّ على حساب المعارضة، والفريق المسيحي فيها بالتحديد. وكان هذا الموضوع من بين الهواجس التي طرحها وفد من نواب المعارضة في زيارته الأخيرة للعاصمة الأميركية، وفي لقاء له تحديداً مع الموفد المكلّف ملفّ لبنان آموس هوكشتاين.
ولكن أيّا كانت عبارات الطمأنة الدبلوماسية التي سمعها الوفد اللبناني، فإنّ المعطيات الموضوعية تشي بالآتي:
– لم يتخلّ هوكشتاين عن خطته لإعادة الهدوء إلى الحدود اللبنانية الجنوبية. وفيما لا تمانع إسرائيل في أيّ اتفاق يؤدي إلى إبعاد الحزب وسلاحه الثقيل عن المدى الذي يطال أراضيها كبديل عن الحرب الواسعة، فإنّ الأمين العام للحزب حسن نصر الله كان واضحاً حين قال في شهر كانون الثاني الماضي إنّ هناك فرصة تاريخية لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة، في إشارة إلى الصيغة التي كان يحملها هوكشتاين يومها، والتي لم تتغيّر حتّى الآن، ولو أنّها قابلة للتعديل عندما يحين أوانها. وربّما كان الحزب يعتقد حينها أنّ الحرب في غزّة ستنتهي سريعاً. ولكنه ما زال مستعداً لمناقشة هذه الصيغة عندما تتوقّف الآلة العسكرية في القطاع. إذ لا يمكنه من باب حفظ ماء الوجه الدخول في اتفاقيّة للتهدئة، بينما لا تزال النيران مشتعلة في غزّة.
– ما زال التفاوض غير المباشر مع الحزب قائماً، لأنّه الطرف اللبناني القويّ القادر على ضمان التزام ما يُتّفق عليه. وعادة ما تعقد الدول الكبرى الاتفاقات مع الأقوياء، لا الضعفاء. وهذا ما حصل عندما تمّ ترسيم الحدود البحريّة بين لبنان وإسرائيل، والذي أداره الحزب عملياً، وليس الدولة اللبنانية. وهذا الاتفاق ما زال ساري المفعول. وما زالت حقول النفط الإسرائيلية في البحر آمنة، ولم تتعرّض لأيّ ضربة، على رغم تبادل القصف والعمليات المستمر بين الحزب وإسرائيل منذ قرابة السبعة أشهر.
– ما زال الحزب محافظاً على مستوى من العمليّات، لم يتجاوزه، على رغم كل الخسائر التي لحقت بكوادره، وعلى رغم قيام إسرائيل باستهداف قادة في الحرس الثوري في القنصلية الإيرانية في دمشق، وما تلى ذلك من ردّ إيراني وردّ على الردّ. ويحرص الحزب، ومن خلفه طهران، على عدم إضاعة الفرصة التي ستأتي لقطف ثمار الاتفاق الموعود مزيداً من الإمساك بالداخل اللبناني بعد انتهاء الحرب، على غرار ما جرى بعد حرب تموز 2006. وعندها لن تكون هناك أيّ مشكلة في انتخاب مرشّح الحزب لرئاسة الجمهورية اللبنانية، أيّاً كان اسمه.
– إقليمياً، تدرس السعودية، وهي الطرف الأساسي الداعم للقوّات اللبنانية حتّى اليوم، خطواتها المقبلة في شكل دقيق. فهي تحافظ على التحسّن الذي طرأ على علاقتها مع إيران، ولا تريد أن تخسره، بمعنى أنّها لن تخوض معركة ضدّ طهران والحزب، كما كانت تفعل قبل الاتفاق الإيراني السعودي الذي عقد في آذار من العام الماضي، وما زال ساري المفعول. كما أنّ الرياض تتعرّض لضغوط أميركية كبيرة من أجل العودة إلى مفاوضات التطبيع مع إسرائيل، والتي توقّفت بسبب الحرب في غزّة.
وهذا الواقع يُترجم بنوع من الحيادية السعوديّة تجاه الأطراف اللبنانيين، بحيث لا يمكن للمملكة أن تستمرّ في منطق المواجهة، بعدما تخلّت عن هذا الخيار لصالح تصفير المشاكل. وفي حال تمّ عقد صفقة مع الحزب برعاية الأميركيين من أجل التهدئة في الجنوب وترسيم الحدود، فإنّ الرياض ستنضمّ عملياً إلى منطق التسويات، من إيران إلى إسرائيل فلبنان.
واستناداً إلى كل هذه المعطيات، تجد المعارضة، وعلى رأسها القوات اللبنانية، نفسها بلا سند فعليّ. لذلك، تقوم بما تقدر عليه من تحرّك في الداخل والخارج لإسماع صوتها وتأكيد أنّ في لبنان جهة موحّدة معارِضة لتوجّهات الحزب. ولكنّ السؤال هو عن مدى قدرة هذه المعارضة على الصمود، في ضوء المصالح والتسويات المحتملة بين الأقوياء.
وهنا تكمن المعضلة لدى المعارضة، ولدى المسيحيين تحديداً. فليس مستغرباً أن “يبيعهم” الأميركان إذا اقتضت مصلحتهم ذلك. وحتّى جبران باسيل الذي يناور من هنا وهناك للحصول على موقع أساسي له في اللعبة، قد لا يعود “حزب الله” في حاجة إليه، عندما يعقد الصفقات مع الدول الكبرى ويضمن من خلالها استمرار دوره ونفوذه.