خاص- زيز الممانعة وجوزة إسرائيل
يُحكى عن زيز صغير وقع على جوزة سقطت من شجرة في أحد الحقول. راح الزيز يقلب في هذه الجوزة الشهيّة عله يجد طريقة ليقتحمها ويأكل ما بداخلها. بعد جهد جهيد عثر الزيز المثابر على فجوة صغيرة في متن هذه الجوزة. فرح الزيز بنيله مبتغاه، واجتهد حتى دخل بصعوبة من هذه الفجوة الى داخل الجوزة واستقرّ فيها أيامًا طويلة وهو يتلذّذ بالأكل بشهيّة وهناء. بعد فترة تمكن الزيز من تجويف الجوزة بعدما أكل كل ما بداخلها. إلا أن أمرًا وقع لم يكن في الحسبان. حاول الزيز الأكول الخروج من الجوزة عبر الفجوة التي دخل منها فلم يستطع، بسبب تضخّم حجمه الذي اكتسبه من أكل قلب الجوزة على مدى أيام طويلة. علق الزيز المسكين داخل الجوزة وبات أمامه أحد حلين لا ثالث لهما: أن يقاتل بلا هوادة محاولًا عبثًا الخروج فيهلك من الإرهاق الذي سيصيبه، أو يبقى مرغمًا صائمًا لفترة طويلة حتى يعود الى حجمه السابق فيستطيع بالتالي الخروج من الثغرة التي عبر منها الى داخل الجوزة.
يبدو أن الإسرائيليين قرأوا جيدًا هذه القصة واستفادوا منها الى أقصى حدّ.
منذ نحو عقدين جلبت إسرائيل جوزتين مسمّمتين وثقبتهما بالقياس التي درسته بعناية، ووضعت الأولى في قطاع غزة والثانية في جنوب لبنان.
بين العاشر والخامس عشر من حزيران عام 2007 نفذت حركة “حماس” انقلابًا عسكريًا على حركة “فتح” في غزة، تمكنت بنتيجته من إخراج السلطة الفلسطينية بجميع كوادرها وإداراتها من القطاع، وأحكمت سيطرتها المطلقة عليه في جميع المجالات. لم تعترض اسرائيل في حينه على ما حصل، ولم تتدخل لدعم السلطة الفلسطينية شريكها المفترض في السلام. هذا الأمر أثار الريبة لدى كثيرين في حينه، حتى أن البعض ذهب الى القول إن اسرائيل دعمت “حماس” بشكل مباشر أو غير مباشر لتنفيذ انقلابها، لتتمكن اسرائيل لاحقًا من التهرب من تنفيذ اتفاقها مع السلطة الفلسطينية الذي كان يقترض أن يفضي الى حل الدولتين.
في ذلك التاريخ دخل زيز “حماس” في جوزة إسرائيل، وظل يأكل من هذه الجوزة ويتنفّخ حجمه حتى حاول الخروج منها في عملية “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأول الماضي. منذ ذلك التاريخ و”حماس” تحاول عبثًا الخروج من الجوزة. فهل هي أمام هلاك محتوم أم أن حجمها سيعود الى ما قبل العام 2007 لتعود السلطة الفلسطينية فتبسط سيطرتها على قطاع غزة وتتولى نيابة عن اسرائيل إنهاء حركة “حماس” بالطرق الشرعية كسبيل وحيد لإعادة البحث بحل الدولتين؟
قبل انقلاب “حماس” بنحو عام كانت حرب تموز 2006 بين “حزب الله” وإسرائيل قد وضعت أوزارها. بعد نحو شهر من الحرب المدمّرة توصّل الطرفان الى وقف لإطلاق النار بعد التوصل الى القرار 1701 في مجلس الأمن الدولي. وبالرغم من الخسائر البشرية والمادية الهائلة التي حلت بلبنان، أعلن “حزب الله” في حينه “نصرًا إلهيًا” لأن اسرائيل لم تتمكن، برأيه، من الدخول الى الأراضي اللبنانية.
في ذلك التاريخ وضعت إسرائيل جوزتها المسمومة الثانية في جنوب لبنان. دخل “حزب الله” عنوة الى داخل الجوزة وراح يلتهما بنهم، من خلال الالتفاف على القرار 1701 (الذي التفت عليه اسرائيل أيضًا) عبر اعادة بناء قوته العسكرية، وإعادة نشر مقاتليه جنوبي الليطاني وصولًا الى الحدود، فضلًا عن دعم ترسانته بصواريخ حديثة وطائرات مسيّرة وغيرها من الأسلحة التي لم يكن يمتلكها قبل حرب تموز. استمر هذا الأمر على مدى 18 عامًا تقريبًا تحت مراقبة إسرائيلية مباشرة لتحركات الحزب سواء في لبنان أو في سوريا بعدما قرّر التدخل في حربها دعمًا لنظام الرئيس بشار الأسد أحد أركان الممانعة في المنطقة.
تضخّم حجم الحزب مرات عدة، الى أن حاول الخروج من الجوزة عندما قرر الانخراط في الحرب على إسرائيل دعمًا لغزة في الثامن من تشرين الأول الفائت. منذ نحو ستة أشهر والحزب يحاول عبثًا الخروج من الجوزة. فلا هو قادر على توسيع الحرب على اسرائيل لأنه يعلم جيدا تبعات ذلك على لبنان وربما على أماكن أبعد من لبنان، ولا هو قادر على تلبية الشروط الإسرائيلية القاسية لوقف النار في الجنوب.
صحيح ان البدايتين كانتا متشابهتين ومتزامنتين تقريبًا، إلا أن النهايتين لن تكونا كذلك بالتأكيد. فمصير “حماس” قد حُسم منذ السابع من تشرين لاعتبارات عدة، إسرائيلية وإيرانية وعربية وحتى فلسطينية داخلية، ولم يبق إلا عامل الوقت ليؤكد هذا المصير المحتوم. أما في حالة “حزب الله” فالوضع مختلف على المستويات كافة، أبرزها أن الحزب سيكون قادرًا على التكيّف مع الواقع الجديد الذي سيجد نفسه أمامه بعد الاجتياح الإسرائيلي الوشيك لرفح. عندها سيجد “حزب الله” نفسه مضطرًا للتضحية بالمهم (أي الخسائر الكبيرة التي تكبدها في الحرب) للمحافظة على الأهمّ، وهو ما سيفعله بالتأكيد.