خاص- الأزمة من الخارج.. والحل أيضًا
في البدء: كان الكلمة. ولكن.. إذا لم تتحوّل الكلمة الى فعل، تصبح كمن يرمي المجوهرات بين أقدام الخنازير.
في الشكل: لم يعد مقبولًا مشهد الكرسي الفارغ في قصر بعبدا، ولا المشهد غير المرئي للثعالب تجوب الحدائق الخلفية للقصر متحيّنة الفرصة للدخول خلسة الى مكان غير معدّ لمثلها. كما لم يعد مقبولًا مشهد الموفدين الدوليين، وآخرهم المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكشتاين، ينزلون من الطائرة متجهين مباشرة الى عين التينة للقاء رئيس كل العهود، والرئيس الدائم حتى بلا عهد نبيه بري. لم يعد مقبولًا أن ينتقل الموفدون من عين التينة الى السراي للقاء رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، الذي نسي (أو تناسى) صفة حكومته، وراح يمارس دور رئيس حكومة أصيلة ورئيس جمهورية معًا. لم يعد مقبولًا أن يكون وزير الخارجية لزوم ما لا يلزم، فيقرر الموفد الدولي الزائر لقاءه من عدمه وفقًا لمزاجه، علمًا أن هوكشتاين، وقبله وزير الخارجية البريطاني دايفيد كاميرون، لم يزورا وزارة الخارجية خلال تواجدهما في بيروت. صحيح أن الوزير عبدالله بوحبيب حوّل نفسه الى ناطق إعلامي باسم “حزب الله” في الحرب التي أدخل بها لبنان عنوة في الثامن من تشرين الأول الماضي، إلا أن الصحيح أيضًا أن الرئيسين بري وميقاتي تجاوزا هذا الموقع ليتحوّلا جنديين في ولاية الفقيه ينفذان الأجندة الإيرانية في لبنان من دون نقاش.
في المضمون: رئاسة الجمهورية هي الموقع المسيحي الأول في لبنان والوحيد في المنطقة، تليها حاكمية مصرف لبنان وقيادة الجيش.. وفقًا للتوزيع الطائفي للمناصب الرسمية للدولة. أين المسيحيون اليوم من هذه المواقع الأساسية التي تؤمن انخراطهم الفاعل في السلطة؟ رئاسة الجمهورية تحوّلت منذ ثلاثة عهود رئاسية الى رهينة بيد “الثنائي الشيعي”، وحاكمية مصرف لبنان أصبحت بيد “الثنائي” أيضًا، فضلا عن وزارة المال التي كانت حقيبتها مداورة بين الطوائف حتى استولى عليها “الثنائي” وبات يعتبرها حقًا مكرّسًا له بالعرف لا يجرؤ أي طرف على الاقتراب منها عند تشكيل أي حكومة. وهكذا سيطر المكوّن الشيعي، بقوة السلاح طبعًا، على القرارين السياسي والمالي في الدولة، علمًا ان رئاسة الحكومة أيضًا باتت في قبضتهم منذ “درس” السابع من أيار 2008، فأصبح أي رئيس حكومة يفكر في الخروج من فلك “الثنائي” يدرك المصير الذي ينتظره. تبقى قيادة الجيش الموقع الأخير للمسيحيين، علمًا أن “الثنائي” يسيطر عليه أيضًا بحكم الأمر الواقع بوجود ميليشيا تابعة له أكثر تجهيزًا من الجيش وعديدها يفوق عديده.
في المحصلة: إذا استمر الحال على هذا المنوال، ليس المسيحي وحده من سيدفع ثمن هيمنة “الثنائي” على الدولة، علمًا أن الوضع الذي وصلت اليه البلاد خير دليل على الفساد وسوء الإدارة التي حكم بها “الثنائي” منذ العام 1990 الى اليوم. فقد نجح “الثنائي الشيعي”، بدعم سوري أولًا وإيراني تاليًا، في التحكم بمفاصل البلاد السياسية والاقتصادية والعسكرية، وفي تحويل أتباع الطوائف الأخرى الى مواطنين درجة ثانية في وطنهم، إلا أنه لم ينجح في إدارة البلد والمحافظة عليه، بدليل ما وصلت إليه الحال من أزمات متلاحقة حتى باتت تشكل خطرًا على بنية الدولة ووحدة البلاد.
في الخلاصة: المشكلة إذًا واضحة، وهي سيطرة مكون لبناني على الدولة وفرض نفوذه وسطوته على باقي المكونات، لشعوره بفائض القوة الذي يؤمنه له سلاحه الإيراني بحجة مقاومة الاحتلال في البداية، ثم تحرير ما تبقى من أرض محتلة، ولاحقًا حتى تحرير القدس والصلاة في الأقصى. بمعنى آخر، هو لا يريد التخلي عن سلاحه والاقتناع بمبدأ مشاركة جميع المكونات في السلطة وفقًا لنصوص الدستور وميثاق العيش المشترك.
وانطلاقًا من ذلك، وبما أن الخطر على المسيحيين تجاوز الحقوق ليبلغ الوجود، بات على من أعطي له مجد لبنان، وريث مؤسس دولة لبنان الكبير بحدودها ومكوناتها الحالية، أن ينتقل من مرحلة الأقوال الى مرحلة الأفعال، حفاظًا على الإرث البطريركي الذي أمّن ملاذًا آمنًا لجميع مكونات المجتمع اللبناني على مدى مئة عام، وإن اعترته بعض الشوائب والعقبات المستوردة في معظمها من الخارج.
من هنا لا بد من الاستفادة من دروس التاريخ: فعندما سعى البطريرك الياس الحويك لإقامة لبنان الكبير توجه مباشرة للتفاوض مع سلطة الانتداب في حينه فرنسا، صاحبة القرار النهائي في الموضوع، وكان له ما أراد.الأمر نفسه تكرر عام 2005 عندما طالب البطريرك نصرالله بطرس صفير، ومعه أغلبية اللبنانيين، المجتمع الدولي بانسحاب الجيش السوري من لبنان، وكان له ما أراد. أما اليوم، وبعدما بات واضحًا أن أية حوارات داخلية لم تعد تجدي نفعًا في ظل إصرار المكوّن الشيعي على الهيمنة على البلاد، صار لزامًا على سيّد بكركي، ومعه أحرار لبنان من جميع الطوائف، التوجه الى الولايات المتحدة الأميركية، صاحبة “سلطة الانتداب الجديدة” على لبنان والمنطقة، لشرح الأزمة اللبنانية الحقيقية بأبعادها الكارثية، وإقناع الإدارة الأميركية بضرورة وأهمية إخراج لبنان من هذا الوضع الذي بات يهدّد وجوده. وما يسهّل هذا الأمر هو ان الأزمة الداخلية، التي كادت أن تتحوّل الى أزمة نظام، سببها الأساس التدخل الخارجي في شؤون البلاد عن طريق الدعم المباشر والمعلَن الذي تقدمه ايران ل”حزب الله” منذ العام 1982.
فهل نشهد قريبًا مثل هذا التحرّك، أم أن الوضع ما زال يحتاج مزيدًا من الانهيار قبل الولوج الى الحل؟