تحدّيات تواجه تعليم طلّاب الجنوب… “التربية” تكشف عن إجراءات “استثنائيّة” للامتحانات

هذه عيّنة من طلاب قرى الجنوب الحدودية، مِمّن أجبرهم القصف الإسرائيليّ على ترك بيوتهم ومدارسهم قسراً، وألجأهم عنوةً إلى مناطق أخرى بحثاً عن الأمان، وسط تحدّيات تطال تعليمهم والحؤول دون “تسرّب مدرسيّ” لآلاف الطلّاب، في المدارس الحدودية، الرسمية والخاصة، وفي المراحل التعليمية كافّة.

تروي الطالبة في الشهادة الثانوية سمر، التي نزحت من بلدة عيترون إلى البلدة الساحلية أنصار، معاناتها مع التعلّم “أونلاين” هذه السنة، وهي التي اضطُرّت إلى العمل في حضانة قريبة لمساعدة ذويها في تأمين إجار المنزل الجديد. تقول لـ”النهار” إنّ “التعلّم عبر الـ”أونلاين” صعب جدّاً، ونتعاون مع المعلّمين لإعادة مشاهدة الفيديوات أو المحاضرات عبر “زوم” متّى توافر الاتصال بالإنترنت”.

أمّا في القطاع الخاصّ، فلم تكن الأزمة ظاهرة وجليّة فيه كالقطاع الرسمي. فقد نجحت إدارات المدارس في الانتقال سريعاً نحو التعليم “أونلاين”، الذي يُمكن وصفه بـ”الفعّال”، أو في إلحاق طلابها بأحد فروع المؤسّسة في منطقة النزوح.

في الأسابيع الأولى للحرب، وَجد طلاب الجنوب أنفسهم في دوّامة مجهولة الأفق، بعد سلسلة قرارات لوزارة التربية تقضي بإقفال المدارس في المنطقة الحدودية، وفي مدارس أخرى، بحسب تقييم مستوى الخطر لديها، وهو ما انسحب إقفالاً شمل بعض قرى صور والنبطية ساحلاً.

في إحصاء أُجري في كانون الأول 2023، تبيّن أنّ 44 مدرسة أساسيّة وثانوية رسمية، إضافة إلى 7 مهنيات رسمية، امتداداً من الناقورة إلى شبعا وما بينهما، مقفلة بشكل كامل، ناهيك بعشرات المدارس الخاصة على الامتداد الجغرافي لأقضية بنت جبيل ومرجعيون وحاصبيا. أمّا التقديرات الأولية للنازحين من المدارس الرسمية، نهاية العام 2023، فتشير إلى 6800 طالب و1200 أستاذ.

ضمن خطّة الطوارئ التي أقرّتها وزارة التربية منذ ذلك الحين، انصبّت الجهود على ثلاث نقاط أساسيّة: التحاق الطلاب والأساتذة بأقرب مدرسة رسميّة إلى مناطق نزوحهم، الطلب إلى إدارات المدارس المباشرة بالتعليم من بُعد، وافتتاح عشرة مراكز طوارئ للتعليم: خمسة في محافظة الجنوب، وخمسة في محافظة النبطيّة، تُتيح للطلاب النازحين استئناف انخراطهم في العملية التعليميّة-التعلّمية.

هذه الخطّة التي يصفها الطلاب وذووهم بـ”المتأخّرة” و”غير الناجعة” بالكامل، ترافقت مع استجابة طارئة لمنظمة “اليونيسيف” الدولية، التي أطلقت برنامج دعم ومساعدة تربوية تلبية لحالة الطوارئ التي يعيشها أهالي الجنوب، وتشمل الطلاب النازحين الذين التحقوا بمراكز إيواء.

ينصّ برنامج “اليونيسيف” التربوي على تعزيز التعليم “أونلاين” للطلاب النازحين، بعد تقديم جهاز “آيباد” لكلّ طالب، إضافة إلى 60 دولاراً شهريّاً كبدل نقل، وتقديم “لابتوب” لكلّ أستاذ أيضاً، على أن يكون الطالب مُسجّلاً على منصّة خاصّة للاستفادة من هذه المساعدات.

عند إطلاقه قُبيل رأس السنة، لم يحظَ هذا البرنامج بتفاعل الطلاب والمعلّمين كما يجب، وتبيّن أنّ عدد المسجّلين على المنصّة يقتصر على 1200 طالب فقط، فيكون لدينا نحو 5600 طالب منقطعين عن التعليم.

في السؤال عن أوضاع هؤلاء الطلاب، بدا جليّاً أنّ أسلوب التعليم الذي يتلقّونه كان “متعثّراً”، ويقتصر على مشاركة الدروس عبر مجموعات الـ”واتساب”؛ وهو ما استدعى تحرّكاً من المكتب التربوي في حركة “أمل”، بالتعاون مع وزارة التربية، لإحصاء الفئة المستهدفة ميدانيّاً، وإشراك المهنيات الرسمية أيضاً في المشروع.

مطلع العام 2024، ارتفع عدد الطلاب المسجّلين على المنصّة من 1200 إلى 6350 طالباً، والأساتذة من 200 إلى 1100 أستاذ، ممّا سمح لهذه الأعداد بالاستفادة من التقديمات العينيّة والمادية التي تقدّمها “اليونيسيف” عبر وزارة التربية.

وبالرغم من هذه التقديمات، فإنّ تحدّيات جمّة تواجه مسار تعليم طلاب الجنوب “بشكل مستدام” ليتناسب مع الطلاب في المناطق اللبنانية الأخرى، وسط تساؤل عن جدوى المبادرة وعدالة المنهاج.

يرى عضو كتلة “التنمية والتحرير”، النائب أشرف بيضون، المتابِع للمبادرة التربوية، أنّ “الهدف منها سدّ الفجوة، وتأمين تعليم سليم ومستمرّ أسوة بباقي الطلاب في الوطن”، داعياً إلى “إقران التعليم بأدوات صالحة للتعليم، ضمن الظروف المتاحة، من دون أن نغفل عن الواقع المرير الذي يعيشه النازحون خارج بيوتهم… فماذا يعني أن يبقى نحو 7 آلاف طالب من دون تعليم؟”. ويضيف لـ”النهار”: “نفتقد دوماً العمل الميداني، والربط ما بين المسؤولين في وزارة التربية مع الجهات المنسّقة على الأرض”.

أمّا عن المستوى التعليمي، فيؤكد بيضون أنّه “لديّ ثقة بأن يأخذ وزير التربية الأمر بالاعتبار، فالامتحانات الرسمية قائمة وهي محطّة أساسية، ويُمكن تخفيف الموادّ والمنهاج نظراً للوضع في الجنوب”، مناشداً الأهالي “التكاتف ومواكبة أولادهم لسدّ الثغرات التعليمية لديهم، وإدراك أنّ أقرانهم في المناطق الأخرى يتلقّون تعليماً سليماً ومكثّفاً”.

إذن، استطاعت “التربية” تأمين “أرضية سليمة” لتعليم الطلاب بنسبة تتراوح ما بين 60 و70 في المئة، فيما الثغرة الأخيرة التي لا تزال تشوب هذه المبادرة هي عدم إتاحة الاتصال بالأنترنت لكلّ الطلاب، وهو ما يعمل عليه بيضون مع وزارة الاتصالات لتأمين باقة أنترنت للطلاب مجاناً. لكنّ “الأمور اللوجستية ليست سهلة”، وفق ما يقول، فـ”النازحون منتشرون على كلّ الأراضي اللبنانية، وننتظر المسار القانوني لهذه المبادرة”.

تُتابع وزارة التربية يوميّاً أحوال التعليم في المدارس الحدودية، بعدما أطلق المركز التربويّ للبحوث برنامج “مواردي” الذي يُتيح للأساتذة مشاركة الملفّات ضمن خدمة “أوف لاين”، التي تسمح للطلّاب الاطّلاع على الدروس متى توافر اتصالهم بالأنترنت.

في حديث لـ”النهار”، يؤكد المدير العام للتعليم الأساسي  جورج داوود أنّ “المدارس المقفلة كلّها تُطبّق هذا البرنامج، والطلاب يعبّرون عن راحتهم باستئناف دروسهم، وقد وزّعنا عدداً من بطاقات الأنترنت لتسهيل عملية التعليم”.

إلى ذلك، تتفهّم الوزارة هواجس الأهالي حيال تكافؤ المنهاج مع المدارس الأخرى في لبنان، فقد مرّ البلد سابقاً بتجربة مماثلة مع أحداث نهر البارد التي استمرّت لأشهر أيضاً، وخضع طلاب الشمال حينها لامتحانات خاصّة. ويؤكد داوود لـ”النهار” أنّ “الوزارة ستتّخذ إجراءات استثنائية مماثلة بشأن طلاب الجنوب في الامتحانات الرسمية والمدرسية، ونحن ندرس كلّ الخيارات، ونقف إلى جانب الطلاب ونتابع يوميّاً مع مديري المدارس الحدودية”.

يُقسَم المشهد التربوي في الجنوب إلى قسمَين: مؤسّسات أقفلت قسراً بسبب وقوعها على تماس مباشر مع القصف، ومؤسّسات أخرى لها خيار الإقفال لكنّها لا تزال مفتوحة، وتتابع تعليمها حضورياً، في حين أنّ أعداداً من طلّابها نزحوا مع عائلاتهم إلى خارج القرية. من تلك المدارس ثانوية كفرا الرسمية التي أبت الإقفال “من باب الصمود التربوي”، وفق ما يشدّد عليه مديرها فؤاد إبراهيم لـ”النهار”، حيث يقول “لا نزال نُعلّم حضوريّاً بنسبة تصل إلى 85 في المئة”.

هناك جزء من طلاب الثانوية وأساتذتها من بلدات بيت ليف، صربين، عيترون وبنت جبيل، وقد نزحوا إلى خارج القضاء، ونجح عدد منهم باستئناف حضورهم يوميّاً إلى المدرسة من قرى نزوحهم الجديدة، فيما يواجه البعض الآخر ظروف نزوح قاسية.

أمّا الفئة التي تُعَدّ في الأكثر صعوبة، فهي فئة الطلاب الذين لا يزالون في قراهم الواقعة تحت القصف اليوميّ، وباتوا عاجزين عن الوصول إلى مدارسهم، فضلاً عن عدم قدرتهم على المتابعة “أونلاين” ولا الالتحاق بمدرسة بديلة أيضاً.

يقرّ إبراهيم بأنّ “مقوّمات التعليم من بُعد غير متوافرة، و”عضّينا على الجرح” بمتابعة التعليم الحضوري، بالرغم من الخطر لئلّا نتّجه نحو الخيار الأصعب تربويّاً”، متسائلاً: “كيف يمكن للنازح مع عائلته وإخوته وأقاربه أن يتابع تعليمه في جوّ غير مؤاتٍ للتعلّم؛ فالمشكلة لا تُحلّ فقط بمنح الطلاب والأساتذة أجهزة إلكترونية مع إغفال الأوضاع النفسية للكادر التعليميّ والطلاب”.

الخطر المحدق بالمدارس في شتّى قرى الجنوب أجبر الإدارات على وضع خطّة طوارئ للانسحاب وإجلاء الطلاب عند أيّ خطر، خصوصاً مع القصف الإسرائيلي “المفاجئ” للسيّارات على الطرق، وليس آخرها سقوط صاروخ اعتراضيّ على سيّارة مديرة مدرسة ياطر في كانون الأول الماضي. هنا يؤكّد إبراهيم أنّ “التحدّي الأكبر الذي يواجه الطلاب اليوم هو المثابرة أمام هَول الأخبار التي يستمعون إليها، فكلّما شُنّت غارة في قرية ما، عاش الطلاب حالة من التوتّر للاطمئنان إلى عائلاتهم وبيوتهم”.

وبالرغم من سدّ الخطّة التربوية فجوة مقبولة من المسار الدراسي للعام الجاري، فإنّ إبراهيم يجد خللاً في التوزيع الجغرافي لمراكز الطوارئ، ويقول: “لو استشاروا منتدى المديرين في لبنان لأنتجنا خططاً أكثر التصاقاً بالواقع”، مناشداً “الوزير قطع النزاع حول إجراء الامتحانات الرسمية، خصوصاً المتوسطة، فهي لزوم ما لا يلزم في هذه الأوضاع”.

من جهتها، تروي الأستاذة في مهنيّة بنت جبيل الرسمية، ميرفيت بزّي، التحدّيات التي تواجه العملية التعلّيمية في إطار الـ”أونلاين”، بعدما نزحت من بلدة الطيري إلى منزل ذويها في الضاحية الجنوبيّة: “أضطرّ يوميّاً إلى إعادة تحضير الموادّ التي أرسلها للطلاب عبر مجموعات الـ”واتساب”، وأستعين بزميلاتي وطلابي القدامى لاستعادة بعض الدروس؛ هذا إن أغفلنا صعوبة تعليم الموادّ التطبيقية والتمارين عبر الهاتف”.

لا تجد بزّي تفاعلاً من الطلاب مع هذا الأسلوب التعليمي لأسبابٍ مختلفة، منها “تقنية أو نفسية وتواجد عدد من أفراد العائلة في غرفة واحدة، مما يُعيق إمكانية تجاوب الطلاب مع الأستاذ بشكل سليم، فلا يحصل التلميذ على الكفايات التطبيقية المطلوبة، فيما توزيع الأجهزة الإلكترونية وبدل النقل لم يشمل حتّى الساعة التعليم المهنيّ”.

أمام هذا الواقع، يكمن التحدّي اليوم بانتشال العام الدراسيّ من خطر السقوط وسط ما يعانيه البلد من تهديدات أمنية، خصوصاً بعد الاضطرابات العديدة التي شهدها القطاع التربويّ في السنوات الأربع الأخيرة.