خاص- الحرب التي لن تقع

خاص- الحرب التي لن تقع

الكاتب: نبيل موسى
28 كانون الثاني 2024

كيف يمكن أن تقع حرب لا يريدها المتحاربون؟

إنه السؤال المحوَري الذي يعكس واقع الحال في لبنان والمنطقة بعد نحو أربعة أشهر على عملية “طوفان الأقصى” وما أعقبها من حرب إسرائيلية تدميرية على قطاع غزة. وبالرغم من تدخل “حزب الله” المحدود في هذه الحرب، إلى جانب بعض الضربات من فصائل محور المقاومة في العراق وسوريا، فضلًا عن “القرصنة الحوثية” في البحر الأحمر، لا تزال قائدة المحور وصانعته، إيران، بمنأى عن أي عمل عسكري أو استخباراتي مباشر ضد إسرائيل، مكتفيةً ببيانات الإدانة والتهديد، تاركة حركة “حماس” والشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية بين أنياب الوحش الإسرائيلي الذي لم يتمكن أحد حتى الآن من لجمه.

لذلك، بات واضحًا أن الحرب المنتَظَرة ليست سوى الحرب المندلعة في غزة، واستطرادًا، على الحدود اللبنانية منذ 7 تشرين الأول الماضي، وهي بالتالي غير مرجّحة للتمدّد جغرافيًا بشكل كبير لأسباب عدة أبرزها أن الأطراف التي من المفترض مشاركتها في هذه الحرب تنأى بنفسها عن هذه المغامرة معروفة النتائج سلفًا.

فالولايات المتحدة الأميركية التي تشكل القوة الأعظم في العالم، وحليفة اسرائيل الأولى في المنطقة والعالم، سارعت في اليوم التالي لعملية “الطوفان” الى تحريك أساطيلها باتجاه المنطقة لتهدئة روع اسرائيل ودعمها معنويًا ليس إلا، فيما حرّكت دبلوماسيتها بقوّة أكبر وبشكل أسرع لضمان أمن إسرائيل من جهة، ولكبح جماحها ومنعها من أن تندفع الى حرب إقليمية لا تريدها واشنطن، ولا اختارت هي توقيتها وأهدافها. والجدير بالذكر أن الولايات المتحدة دخلت عام الانتخابات الرئاسية، وهي عادة في هذه المرحلة تحاول الابتعاد عن الأزمات العالمية الكبرى لحسابات انتخابية داخلية في الحزبين الرئيسيين الجمهوري والديمقراطي اللذين يسعى أحدهما للبقاء في البيت الأبيض لولاية رئاسية ثانية، فيما يسعى الآخر للعودة إليه مستفيدًا من أي خطأ يقترفه خصمه خلال هذا العام.

كما أن واشنطن تدرك جيدًا أن حربًا إقليمية كتلك المتوقعة في المنطقة تستدعي تشكيل تحالف دولي واسع وحشد قوات في المنطقة استعدادًا لجميع الاحتمالات، وهو ما لم يحصل غداة 7 تشرين الأول أو في الفترة اللاحقة. بل على العكس من ذلك، وفي إطار المساعي لمنع اتساع رقعة الحرب، عمدت الولايات المتحدة الى سحب حاملة الطائرات “جيرالد فورد” ومجموعتها القتالية من البحر المتوسط مطلع العام الجاري، في “بادرة حسن نيّة” تجاه إيران تبلغها فيها أن طريق المفاوضات سالكة.

أما الطرف الثاني الأكثر تأثيرًا في قرار الحرب فهو إسرائيل بالتأكيد. فقد حصلت تل أبيب بعد “طوفان الأقصى” على “تفويض عالمي على بياض” لاتخاذ جميع الإجراءات التي تراها مناسبة للدفاع عن نفسها بعدما نجحت في الترويج بأن وجودها أصبح في خطر. هذا التفويض يمنحها “الحق” في شن حرب كبرى على الفلسطينيين جنوبًا في غزة بحجة محاربة “حماس”، وحرب أصغر على لبنان شمالًا بحجة إبعاد “حزب الله” عن الحدود وضمان أمن مستدام لسكان المستوطنات. إلا أن هذا التفويض لم يشمل فتح حرب مباشرة ضد إيران قد تهدد الاستقرار في المنطقة كلها. وانطلاقًا من ذلك، ركزت اسرائيل بداية على الحرب في غزة، وهي قد تمتد أشهرًا أو ربما أكثر باعتراف القادة الإسرائيليين أنفسهم، لأنه بات واضحًا أن أهداف هذه الحرب أبعد مما أعلنه قادة الدولة العبرية، بدليل عدم اكتراثهم لعشرات الأسرى الإسرائيليين لدى “حماس”، ما يشكّل سابقة في تاريخ إسرائيل.

وقبل أن تنهي إسرائيل حربها جنوبًا، نقلت تركيزها الدبلوماسي قبل العسكري على جبهة الشمال، وراحت تطلق التهديدات اليومية بتدمير لبنان اذا لم ينسحب “حزب الله” الى شمال الليطاني، وهي بالتأكيد تهديدات جدية ولكن ليس بالمعنى الحرفي لتصريحات مطلقيها. فتدمير لبنان ليس بنزهة لإسرائيل من جهة، ومن جهة ثانية هو أمر غير مسموح لها به دوليًا، لأن “التفويض” الذي حصلت عليه “دفاعي” ولا يسمح لها بمثل هذه الحرب، بمعنى أن ما يحصل في غزة لا ينطبق على لبنان لأن الحرب في غزة واحتلالها قد ينهي “حماس”، لكن الحرب في لبنان لن تؤدي بالتأكيد الى احتلاله وبالتالي لن تؤدي حتمًا الى إنهاء “حزب الله”.

الطرف الثالث في هذه الحرب الكبرى المفترَضة هو إيران التي تنأى بنفسها منذ “طوفان الأقصى” عن أي عمل عسكري أو استخباراتي ضد إسرائيل، بالرغم من محاولة الأخيرة مرارًا استدراج طهران الى الحلبة عبر عمليات نوعيّة ضد مواقعها وقادتها في أكثر من بلد في محور الممانعة. فإيران التي عملت على مدى عشرات السنوات على بناء ورعاية هذه “الأذرع الأخطبوطية” في المنطقة والتي مكنتها من احتلال أربع عواصم عربية من دون أن تحرك جنديًا أو تطلق صاروخًا، لن تضحي بهذه المكتسبات الفعلية التي حققتها على الأرض بفعل عمل متهوّر يجعل إنجازاتها في مهبّ الريح.

فضلًا عن ذلك، لا يغفل الجانب الإيراني عن أزمته الداخلية بعد نحو عام من الثورة الشعبية ضده والتي بلغت حد تهديد مصيره. وهنا لا بد من استعادة مشهد رجال الدين الذين كانت عماماتهم تتطاير من فوق رؤوسهم بفعل الثوار والثائرات الذين انتقلوا في حينه من موقع الدفاع الى الهجوم على النظام ورموزه، في مواقف لم تكن لتصدّق قبل سنوات أنها تحصل في إيران. وانطلاقًا من ذلك لدى النظام الإيراني حساباته الداخلية في حال انغماسه في حرب إقليمية كبرى قد تضع مصيره على المحك، وهو أمر يتقاطع فيه مع السياسة الأميركية التي لا ترغب بالتأكيد في سقوط النظام الإيراني، حفاظًا على التوازن السلبي الذي يؤمّن مصالحها في واحدة من أكثر المناطق توترًا في العالم.

انطلاقًا من كل ذلك لا يبدو أن المنطقة مقبلة على حرب كبرى متعددة الأطراف، علمًا أن كل ما يحصل من معارك جانبية، باستثناء الحرب في غزة، لا يعدو كونه من قبيل “الحفاظ على ماء الوجه” من قبل جميع الأطراف. بهذا المعنى يمكن القول إنه حتى لو اتسعت رقعة الحرب على جبهة الجنوب اللبناني، وهو أمر بات شبه مؤكد، فهي ستظل تحت سقف قواعد اشتباك جديدة تؤمن لإسرائيل حماية حدودها ولا تسمح ل”حزب الله” بالانغماس في حرب حياة أو موت مع الدولة العبرية.