خاص- الرابح الوحيد

خاص- الرابح الوحيد

الكاتب: نبيل موسى
16 كانون الأول 2023

بعدما انقشعت حرب “داحس والغبراء” في السراي وساحة النجمة وما بينهما، وبعدما عاد العقل الى موضعه الطبيعي لإجراء قراءة موضوعية لما حصل على مدى اليومين الماضيين وما قبلهما، وبعد قراءة صفحات من التعليقات التي حملت الكثير من الهجمات والعنتريات، يتأكد أن الجميع خرج من معركة تأجيل تسريح قائد الجيش في مجلس النواب خاسرًا.. إلا واحدًا.

في النتائج الأولية لما وصفها بعض الأطراف بحرب الحياة أو الموت تبرز مؤشرات كثيرة تبعث في معظمها على القلق وليس على الاحتفال بنتيجة أقل من طبيعية في بلد يشبه بلدان العالم. هذه النتائج قفزت الى الواجهة بعد دقائق من إقرار مشروع قانون التمديد لقادة الأجهزة الأمنية من رتبة عماد ولواء لمدة سنة، وهي بالتالي لا تحتاج الى الكثير من التحليل:

في البداية، خرج المعني الأول بالملف قائد الجيش منتصرًا في معركة لا يريدها، ولا يجيدها بكل تأكيد. لكن هذا الانتصار، الذي هو بالطبع انتصار للمؤسسة العسكرية وللوطن، باتت تشوبه شائبة التشكيك بعد هذا الكمّ الهائل من “السموم السياسية” التي طفت على سطح المشهد العام، بسبب حدة الهجوم وشخصانيته الذي تعرّض له من “التيار الوطني الحر” أو ربما من رئيسه النائب جبران باسيل شخصيًا. هذا الهجوم أرخى بظلاله على قيادة المؤسسة العسكرية، ولو بنسبة محدودة، وخاصة على الذين يدورون في فلك “العونية السياسية” وحلفائها. من هنا باتت مهمة القائد أصعب، إن لجهة إعادة ترتيب بيته الداخلي، أو لجهة تحصين القيادة ضد التدخلات السياسية وتحسين علاقتها بكافة الأطراف وصولًا الى اعادتها الى ما كانت عليه.

رسميًا أيضًا، خرج رئيس الحكومة نجيب ميقاتي من المعركة خاسرًا ما تبقى من “سلطته”، بعدما تخلى عن دور حكومته في إنجاز الملف الذي هو من مهامها أصلًا، واضطراره الى رمي كرة النار الى مجلس النواب حفاظًا على الحد الأدنى من تفاهم بين أقطاب حكومة مفككة عاجزة حتى عن تصريف الأعمال، بفعل الضغوط الحزبية التي تتعرّض لها أمام كل استحقاق تواجهه.

بعد قيادة الجيش والحكومة ياتي دور بكركي التي نجحت في إيصال ملف التمديد الى خواتيمه المرجوّة، لكن التضحيات التي تكبدتها كانت ربما أغلى ثمنًا من الهدف نفسه. فالحملات السياسية التي تعرض لها الصرح البطريركي والتي وصلت احيانا الى المسّ بمقام سيّده شخصيًا لم يكن من السهل تجاوزها في بلد مركّب طائفيًا يقوم عادة على احترام المقامات الدينية. ولعل الأصعب أن قسمًا كبيرًا من هذه الهجمات على بكركي كان من أبناء الطائفة أنفسهم، وكأن التاريخ يعيد نفسه ليذكّر بمشهد مهاجمة “العونيين” للصرح البطريركي وسيّده البطريرك الراحل الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير عام 1989 الذي لم يؤيد مواقف “الجنرال” في حينه. كما أن الأبرز في خسارة بكركي كان النجاح في إدخالها في زواريب السياسة الضيقة لمحاولة إلهائها عن القضايا الوطنية الكبرى، وفي مقدمها انتخاب رئيس للجمهورية وتطبيق اتفاق الطائف والقرارات الدولية.

أما حزب “القوات اللبنانية” الذي شكل تكتله “الجمهورية القوية” رأس حربة سياسية في ملف التمديد لقائد الجيش، فلم يخرج أيضًا منتصرًا من المعركة بعدما نجح الرئيس نبيه بري في إعادته الى “بيت الطاعة التشريعي” في مجلس النواب، ومرّر على ظهره 18 مشروع قانون في الجلسة التشريعية الأخيرة، باعتراف رئيس الحزب سمير جعجع بعد انتهاء الجلسة.

الأمر نفسه ينطبق على حزب “الكتائب اللبنانية” وكتلتي “تجدد” و”الاعتدال الوطني” وبعض المستقلين، الذين كانوا يؤكدون رفضهم مبدأ تشريع الضرورة في ظل غيار رئيس الجمهورية، واضطروا مرغمين، لدوافع وطنية بالتأكيد، الى دخول القاعة العامة لتأمين النصاب بعد مغادرة نواب “حزب الله” القاعة.

كذلك لا بد من التوقف عند واقع كتلة “اللقاء الديمقراطي” التي ساهمت بقوة في التمديد بعدما تلقت وعودًا من مرجعيات كبيرة بتعيين رئيس للأركان في مجلس الوزراء بالتوازي مع تأجيل تسريح قائد الجيش. إلا أن حساب الحقل لم يأت مطابقًا لحساب البيدر، بعدما انتقل ملف التمديد من السراي الى ساحة النجمة بعد تعذر تأمين نصاب جلسة مجلس الوزراء، فكان تأجيل التسريح وحيدًا لأن مجلس النواب لا يملك بالتأكيد صلاحية تعيين رئيس الأركان.

أما “حزب الله”، الذي كان حتى اللحظة الأخيرة من أشد المحرجين في هذا الملف، فقد تنازل عما تبقى من ثقة مع حليفه حفاظًا على مصالحه، حتى لا يظهر بمظهر المعطّل للدولة والخارج على شبه الإجماع الوطني والواقف في مواجهة مرجعية وطنية كبرى مثل بكركي، وهو في خضم حرب ستغيّر بالتأكيد وجه المنطقة. فقد فضّل الحزب، كما العادة، مصلحته الاستراتيجية الكبرى على مواقفه التكتيكية الضيّقة التي يعلم جيدَا انه سيكون قادرًا على ترميمها في أية صفقات سياسية داخلية مرتقبة.

الخاسر الأكبر كان بالتاكيد “التيار الوطني الحر” والنائب باسيل شخصيًا الذي كسر الجرة مع قيادة الجيش بعدما استخدم كل أسلحته بما فيها “المحرّمة سياسيًا” ضد التمديد، حتى وصل به الأمر حدّ مهاجمة العماد عون شخصيًا واتهامه بأمور لا تليق بمطلقها وإن كانت لا تضر بغيره. كما تركت مواقف “التيار” الحادة ندوبًا عميقة في علاقته مع بكركي، بالإضافة الى إعادة علاقاته مع حزب الله الى الصفر بعدما تخلى عنه الأخير في معركة يعتبرها “التيار” عن حق معركة حياة أو موت، على أبواب معركة رئاسية مرتقبة في مطلع العام المقبل وفق المعطيات الظاهرة.

الجميع خرج إذًا من المعركة مضرجًا بدمائه.. إلا واحدًا: الرئيس نبيه بري.

فقد أظهر بري بموقفه من التمديد تمسّكًا بدور السلطة التشريعية كمدافع أول عن الدستور بكل موجباته، وهو ما قصده بقوله للنائب جورج عدوان في الجلسة الأخيرة: “هون ما في سياسة، هون في تشريع”. كما بدا بمظهر الحريص على الوطن من خلال تأمين الاستقرار في المؤسسة العسكرية التي يجمع اللبنانيون على احترامها. وكذلك بدا بمظهر الحريص على الوحدة الوطنية من خلال تجاوبه مع دعوات البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي الذي حرص على إبقاء هذا الموقع مع الموارنة بعدما خسروا، ولو مؤقتًا، موقعي رئيس الجمهورية وحاكم مصرف لبنان. كما نجح في تسليف المعارضة “انتصارًا” هو في الحقيقة انتصار للدولة بمؤسساتها أكثر منه انتصار لحزب أو طائفة. كما رسّخ موقعه رئيسًا تاريخيًا لمجلس النواب من خلال تسجيل سابقة تشريع الضرورة في المجلس، وهو الأمر الذي كانت كل قوى المعارضة مجمعة على رفضه. كما لا بد من التذكير بأن موقفه جاء متجاوبًا مع الدعوات الدولية الرافضة للفراغ في قيادة الجيش والمؤيدة لبقاء العماد عون على رأسها.

فهل هي حنكة الرئيس بري السياسية التي لعبت دورها، أم أنه النظام الداخلي لمجلس النواب الذي يسمح لرئيسه بإبقاء مفتاح المجلس في جيبه، هو الذي أوصل الى هذه النتيجة؟