خاص – في سرديّة القضية اللبنانية
كتب القاضي السابق والمحامي فرانسوا ضاهر:
لبنان لم يعرف المارونية السياسية كما يُشاع ويُقال ويُتداول. بمعنى أن الطائفة المارونية لم تسعَ يوماً الى تحقيق مكاسب ومواقع ومناصب في السلطات الدستورية والمؤسسات العامة الرسمية او الى تحسين موقعها العام في الدولة.
ذلك أن لبنان الصغير (حوالي ٣٥٠٠ كم٢)، لبنان القائمقاميتين ومن بعده لبنان متصرفية جبل لبنان، المكوّن من المسيحيين والدروز، قد أُعطي، خلال العهد العثماني وبرعاية دولية، نظاماً خاصاً يرعاه وإستقلالاً ذاتياً شكّل ضمانة وحماية للطائفتين اللتين تكوّنانه.
اما بعد سقوط الامبراطورية العثمانية، إثر الحرب العالمية الاولى وإبرام معاهدة سايكس بيكو في ١٩١٦/٥/١٦ التي وزّعت نفوذ الدول الحليفة على منطقة الشرق الاوسط، تمّ إنشاء دولة لبنان الكبير بحدوده الحالية في الأول من أيلول سنة ١٩٢٠ ووضع له دستور جديد في ٢٣ أيار سنة ١٩٢٦ أعطي فيه المسيحيون صلاحيات ضامنة وحامية لوجودهم وكيانهم وذاتيتهم وخصوصيتهم في رحاب المنطقة العربية التي تختص بحكم الطوائف الإسلامية لها.
غير أنه منذ ذلك التاريخ لم يعرف هذا اللبنان إستقراراً داخلياً لان الطوائف الاسلامية لم تكن ترتضي الخضوع لهذه الصلاحيات التي كان يتمتع بها المسيحيون عامة والموارنة خصوصاً.
فإستمرّ هذا الصراع الطائفي طوال فترة الانتداب الفرنسي حتى أبرم اللبنانيون، مسيحيون ومسلمون، الميثاق الوطني سنة ١٩٤٣ الذي عقبه إستقلال لبنان في ١٩٤٣/١١/٢٢ وإستُتبع بالعهود الاستقلالية الأولى، التي كان آخرها عهد الرئيس أمين الجميل.
تلك العهود التي كانت في مجملها وراء نهضة هذا الوطن وإزدهاره وتمايزه وفرادته وثقافته وتكوّن مدّخراته ونشأة مؤسساته المركزية الحيوية وتطوير إدارته وإقامة الهيئات الرقابية عليها وإقرار قوانينه الأساسية.
غير أنها لم تبقِه بمنأى عن المطالبات السياسية التي رمت كلّها الى إتمام تعديلات في الصلاحيات الدستورية التي كانت تضطلع بها الطائفة المارونية لمصلحة بقية الطوائف الإسلامية التي كانت تتذرّع دوماً بالانتقاص والاجحاف اللاحقين بها.
وهذه النظرية المطلبية التراكميّة كانت سبب وعلة الأحداث التي إندلعت في لبنان على التوالي منذ إلاستقلال وحتى يومنا هذا.
نذكر أبرزها، ثورة ١٩٥٨، محاولة الانقلاب ١٩٦١، إتفاق القاهرة ١٩٦٩، حرب المخيمات الفلسطينية ١٩٧٣، الحرب الاهلية ١٩٧٥ الى ١٩٨٩، الوصاية السورية ١٩٩٠ الى ٢٠٠٥، حقبة الاغتيالات السياسية منذ ٢٠٠٤/١٠/١ (مروان حماده) وحتى ما بعد ٢٠٢١/٢/٤ (لقمان سليم)، أحداث ٢٠٠٨/٥/٧، إتفاق الدوحة في ٢١ أيار ٢٠٠٨، القمصان السود ٢٠١١/١/١٨، تعطيل الانتخابات الرئاسية ما بين ٢٠١٤ الى ٢٠١٦، كذلك تعطيل الاستحقاق الرئاسي الحالي المطروح منذ ٢٠٢٢/١٠/٣١.
سيما وإن الطوائف الاسلامية كانت تجد دوماً في البلاد العربية ظهيراً ودعماً لمطالبها السياسية وتأييداً لنظرتها التعديلية لموازين القوى السياسية في الداخل اللبناني.
علماً أن دستور الطائف قد أُقرّ ليكرّس بصورة نهائية موازين حكم البلد وكيفية إدارته. فأسقط من رئيس الجمهورية ممارسة السلطة الإجرائية التي كان يضطلع بها، وأولاها لمجلس الوزراء مجتمعاً. كما ومنح المساواة للمسلمين مع المسيحيين (٦/٦ مكرّر) في عضوية السلطة المشترعة. الأمر الذي أراح الطائفة السنية وعزّز نفوذها الى حدّ القول بأن لبنان قد مرّ بحقبة السنيّة السياسة التي إنقضت مع إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريرى وخروج الجيش السوري من لبنان.
بعد ذلك تولّت الطائفة الشيعية بقيادة حزب الله الإمساك بمفاصل حكم البلد إثر إتفاق مار ميخائيل في ٢٠٠٦/٢/٦ الذي وقّعه مع التيار الوطني الحر، وخوضه لحرب تموز ٢٠٠٦ التي أَخرج نفسه منها منتصراً، وإنفلاش متطلبات المقاومة على أراضي الجمهورية اللبنانية، ودخولها الى المؤسسات الدستورية، النيابية اولاً سنة ٢٠٠٥، والاجرائية لاحقاً سنة ٢٠٠٧. حتى إنطلقت حقبة صحّت تسميتها بالشيعية السياسية.
علماً أن هاتين الحقبتين قد تميّزتا بسوء تطبيق دستور الطائف من جهة، كذلك بإدخال مصطلحات وممارسات غير دستورية عليه من جهة ثانية، طيلة الفترة الزمنية التي إمتدّت من سنة ١٩٩٠ مروراً بسنة ٢٠٠٥ وحتى تاريخه. بحيث أضحى حكم البلد مستحيلاً وإدارته شبه مستعصية.
فوصل، بفعل الصراعات السياسية بين المشاريع الإقليمية على أراضيه والطائفية المستفحلة وتقاسم النفوذ في الحقائب الوزارية والمناصب والزبائنية الوظيفية وتوزّع المغانم والصناديق على أركان المنظومة الحاكمة، الى أوضاعه. حيث فقد كل مرتكزاته ومقوّماته وخصائصه ومدّخراته وفرادته وتمايزه وحتى ثقافته.
من هنا، بات يقتضي عقد مؤتمر وطني لإعادة تكوينه وإرساء نظام سياسي جديد له لحكمه وإدارة شؤونه.
بخاصة وأنه يتنازعه مشروعان سياسيان متعارضان متناقضان لا يلتقيان ولا يتعايشان ويتطلبان تعديلات في جوهر الصلاحيات الدستورية القائمة.
بحيث يكون لعقد هذا المؤتمر أولويّة على أي إستحقاق دستوري، مهما بلغت أهميته. بمعنى أنه لا يصحّ إتمامه الاّ لتكريس ما يكون قد تمّ التفاهم حوله من نظام عيش مشترك ثابت ونهائي بين أبناء هذه الأمة.